هل تدخل أمريكا في صراع جديد من أجل إحداث تماسك داخلي؟
من المقالات الجيدة التي قرأتها في التعليق على التغير في السياسة الأمريكية خلال العقد الماضي مقالة (( أمريكا والعالم.. عُزلة وانحسار أم إعادة تموضع؟)) للكاتب اللبناني سعيد محيو، كتبها قبل نهاية 2013، ونشرتها SWI الوحدة الدولية التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، مما قال فيها:
“الجدل المحتدم لا يزال ساخناً في الولايات المتحدة منذ سنتين حول الوسيلة الأنجع للحفاظ على الزعامة العالمية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وهو جدل يدور بين معسكريْن رئيسيين إثنين: الأول، يدعو إلى تقليص الالتزامات الأمنية – العسكرية الأمريكية في العالم إلى حد كبير، والتركيز بدلاً من ذلك على “بناء الأمة” في الداخل الأمريكي وعلى تطوير الإقتصاد والبنى التحتية والتعليم والصحة وسد الفجوة الهائلة التي تزداد اتساعا بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة.
والثاني، يطالب بإبقاء الإستراتيجية الكبرى الراهنة القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الحفاظ على النظام الليبرالي الدولي الراهن بقوة السلاح الأمريكي…
نعود الآن إلى وجهة نظر “المعسكر الإنسحابي” الأمريكي، لنتساءل: ما هي المرتكزات الفكرية – الإستراتيجية لهذا المعسكر؟ يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
– استراتيجية الهيمنة الليبرالية الشاملة على العالم غير منضبطة ومكلفة ودموية، وهي تخلق أعداء بالقدر نفسه الذي تقتلهم فيه. كما أنها تثبط عزيمة ورغبة الحلفاء في تحمُّل أكلاف الدفاع عن أنفسهم…
– آن الأوان للتخلي عن استراتيجية الهيمنة الأمريكية واستبدالها باستراتيجية ضبط النفس، وهذا يعني التخلي عن السعي وراء الإصلاح العالمي والإكتفاء بالعمل على حماية المصالح القومية الأمريكية الضيّقة، وكذلك تقليص عديد وعتاد الجيش الأمريكي والتخلي عن بعض القواعد العسكرية في أنحاء العالم، وتحميل الحلفاء أكلاف الدفاع عن أنفسهم.
خطر التمدد الإستراتيجي الزائد، الذي كان العامل الرئيسي في تقويض كل الإمبراطوريات السابقة في التاريخ” انتهى.
• الجدل الذي ذكره حمو في مقالته كان قد حُسم لصالح معسكر “إعادة التموضع” على أرض الواقع وكما أثبتت العديد من الوثائق والكتب واللقاءات. منها الوثيقة التي أصدرتها وزارة الدفاع الأميركية في يناير/ كانون الثاني 2012 بعنوان «الحفاظ على استمرارية القيادة العالمية للولايات المتحدة: أولويات الدفاع في القرن الحادي والعشرين». ومنها ماذكره غير واحد من المحللين المطلعين من الأمريكان؛ بقال بروفيسور جوزيف ناي في لقاء مع برنامج “حديث خاص” على تلفزيون العربي في 08\10\2016:”إن الولايات المتحدة تمر بمرحلة تسعى من خلالها إلى التقليل من تدخلاتها في النزاعات الخارجية… هذا الموقف لا يتعلق بالضرورة بحزب أو آخر”
• هذه السياسة هي محاولة للهروب من قدر الإمبراطوريات، والتي كان التمدد الزائد هو أحد العوامل الرئيسية في سقوطها. في كتابه “رؤية استراتيحية” الذي وضع فيه مستشار الأمن القومي السابق زبيغنيو بريجنسكي رؤيته لكيفية المحافظة على التفوق الأمريكي، ونصح فيه صُناع القرار بالكف عن لعب دور شرطي العالم…؛ قال:”روما المتوسعة أكثر مما ينبغي مالبثت أن أوشكت على الإفلاس في منتصف القرن الخامس”.
نفس الأمر نادى به بروفيسور جوزيف ناي في كتابه “مستقبل القوة”؛ قال:”فالتفوق لا يعني الإمبراطورية أو الهيمنة. قد تستطيع الولايات المتحدة أن تمد نفوذها لا أن تسيطر على الأجزاء الأخرى من العالم”.
• فالذي حصل هو”تغيير في السياسة، ولكنه لا يعني بالضرورة تدهوراً في قوة الولايات المتحدة”، بتعبير جوزيف ناي في مقابلته مع تلفزيون العربي. وتوقف عن الدخول في الحروب التقليدية المفتوحة والتوجه لاستعمال القوة الذكية (الاستهدافات الدقيقة…).
• هذه السياسة وإن كانت محاولة ذكية للتهرب من قدر الإمبراطوريات (السقوط بسبب التمدد الزائد)، إلا أن الولايات المتحدة، التي لم تستطع التخلص من الحروب الداخلية وإحداث حالة من التماسك الداخلي إلا عن طريق الصراع مع أعداء خارجيين، دخلت مرة أخرى في حالة من التفكك والتنازع الداخلي.
في كتابه “تحليل العلاقات الدولية: دراسة في إدارة الصراع الدولي” يقول الدكتور جمال سلامة عن الدول التي يغيب فيها التجانس السكاني، ويغذي فيها عدم التجانس السكاني الصراعات الداخلية: “قد تجد ملجأ بالدخول في صراعات خارجية ونقل مشاكلها خارج حدودها أو البحث عن عدو تجمع عليه الجماعات المختلفة، وهي سياسة تقليدية لجأت إليها بعض الأنظمة التي رأت في الإجماع على عدو خارجي تحقيقاً للوحدة الوطنية واستقراراً لحكمها”.
كما ينقل عن عالم الاجتماع الأمريكي لويس كوزر قوله عن الصراع الخارجي بأنه:”يؤدي إلى إحداث حالة قوية من التماسك الداخلي فضلاً عن أنه يحد من التناقض والصراع الداخلي”.