شخطة قلم – مجلة بلاغ العدد ٧٠ – رمضان ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: أبو محمد نصر
المنصب هو ما يتولاه الإنسان من عملٍ أو وظيفةٍ عالية، وهو اختبارٌ وبلاءٌ وتكليفٌ لا تشريف، وإنّ المسؤولية التي تقع على عاتق الإنسان حينما يتولى منصبًا ما، مسؤوليةٌ كبيرةٌ وهو مسؤول أمام الله أولًا ثم أمام الناس عن كل تصرفٍ يقوم به، وكل قرارٍ يصدره، ولكن مع تغير الأزمان وذهاب القيم، أصبح الناس ينظرون للمنصب على أنه غنيمةٌ ومكسبٌ ومكانةٌ للتعالي على الآخرين، بل هناك من يدفع عمره كله لينال أي منصب، فيعمل المستحيل حتى يجلس على الكرسي، وما إن يجلس يتغير فيه كل شيء، الكلام، النظرات، الحركات، حتى نفسه تتنكر لماضيه القريب وكأنّ الماضي أمرٌ معيب!!
وبعيدًا عن المناصب كان العم أبو أحمد يخرج من بيته في الصباح الباكر إلى ورشة “تقطيع الحجر” من أجل أن يُعيل أسرته، فولده أحمد على أبواب التخرج في الجامعة، وقد درس الهندسة الإلكترونية، وبالعودة للوراء قليلًا وذلك حينما حاز أحمد على شهادة البكلوريا بفرعها العلمي بمعدلٍ جيد، جلس مع والده ليخبره برغبته دخول الهندسة الإلكترونية لحبه لهذا الاختصاص، ولكن في بعض الأحيان تجري الرياح بما لا تشتهي سفن الإنسان، فمعدل أحمد لا يؤهله لدخول هذا الفرع في الجامعات العامة، وإنما هناك جامعةٌ خاصةٌ واحدةٌ يستطيع أحمد من خلالها دراسة الهندسة ولكن أقساط هذه الجامعة مرتفعة، ورغم ما يعانيه أبو أحمد من فقر، فالراتب الشهري الذي يجنيه من عمله في ورشة تقطيع الحجر لا يكفيه لإعالة أسرته، فكيف إذا أضفنا على ذلك دفع أقساط الجامعة السنوية، فقال لولده أحمد: اذهب وسجل في الجامعة ولعل الله يجعل لنا بعد ذلك فرجًا ومخرجًا، فسجل أحمد في الجامعة وبدأت المعاناة السنوية، فالمعاناة السنوية عند الفقير تبدأ في كيفية تأمين الأقساط الجامعية لأبنائه، فالجامعات العامة أقساطها مرتفعةٌ مقارنةً بالدخل الشهري للفقير، فكيف إذا كان الأولاد يدرسون في الجامعات الخاصة؟!!
كان أبو أحمد إذا حان موعد دفع القسط يحتار في أمره، هل يقول لأحمد: لا طاقة لي بدفع هذه الأقساط وعليك أن تترك الجامعة وتعمل حتى تساعدني في إعالة الأسرة، أم يسعى جاهِدًا لتأمين القسط حتى لا يشعر أحمد أنه أصبح عبئًا عليه، ومع هذه الحيرة كان أبو أحمد يكتم جراحه ويستدين من هنا وهناك ويعطي أحمد القسط تلو القسط حتى وصل إلى سنة التخرج، وكان أحمد مع انشغاله بالدراسة يخطط لمستقبله، حيث أنه سيبحث عن وظيفة بعد تخرجه ليكون عونًا لوالده الذي أثقلت السنوات كاهله، وأخذ منه التعب والشقاء ما يريد، وبدأت الأحلام تأخذ أحمد يمنةً ويسرةً، فكان يحلم بازدهار المستقبل رغم أنه يعيش شقاء الحاضر!!
لم تدم أحلام أحمد كثيرًا، فقد جاء ما ينسفها ويبددها، فمع تغير الحكومات وتغير القرارات، قررت الحكومة الجديدة إعادة النظر بحال الجامعات العامة منها والخاصة، وذلك لاعتماد بعضها ورفض البعض الآخر، وكان الجميع ينتظر قائمة الجامعات المعترف بها ومن بينهم أحمد وأبو أحمد، وبالفعل نزل القرار وفي أسفله شخطة قلم، وبدأ أحمد يبحث عن اسم جامعته بين الجامعات المعترف بها، فكانت الصدمة حيث إن الحكومة الجديدة لم تعترف بجامعته كما أنها لم تعترف بكثيرٍ من الجامعات الخاصة لأسباب مجهولة، وفي هذه اللحظات لم يتمالك أبو أحمد نفسه فتخيل أن الوزير الذي أصدر القرار يقف أمامه فقام يخاطبه:
يا سيادة الوزير: هلا نظرت إلى حال الطلاب قبل أن تصدر هذا القرار؟
يا سيادة الوزير: هل جزاء من تهجر وسكن المخيمات، وعاش الفقر وعايشه، ورفض أن يعيش تحت حكم نظامٍ مجرمٍ أن لا تعترف به؟!
يا سيادة الوزير: ألا تدري كيف كنت أدفع لأحمد الأقساط السنوية، كنت أقطع من فم أولادي، وأستدين المال وأكتم جراحي حتى لا يشعر أحمد بالحرج، وبعد ذلك تُصدر مثل هذا القرار!!
يا سيادة الوزير: كم كنت أنتظر لحظة تخرج أحمد حتى أرى السعادة، ولكن يبدو أن السعادة قد قُتلت بعد قرارك
يا سيادة الوزير: هي شخطة قلم شخطتها بقلمك، ولكن هذه الشخطة دمرت فينا كل شيء!!
وبعد أن أثار هذا القرار سخط الطلاب وآبائهم، قرر الوزير النظر في حال الجامعات الخاصة، ثم قرر بعد ذلك الاعتراف بها، ولكن السؤال هنا ماذا تفعله شخطة القلم؟، فقد تكون شخطة واحدة سببًا في تدمير جيلٍ كاملٍ، وقد تكون سببًا في تدمير أمة، وقد تكون سببًا في إفساد المجتمع، وقد تكون سببًا في معاناة فقير، وقد تكون سببًا في بيع البلاد، وقد تكون سببًا في قتل السعادة في قلوب البسطاء، وليست كل الأقلام واحدة فلذلك تختلف الشخطات وتختلف القرارات، والسعيد من كانت شخطات قلمه لبناء أمة وبناء جيل، وإصلاح مجتمع، وفي العودة إلى المنصب فهو أمرٌ زائلٌ ولو دام المنصب لأحد ما وصل لأحد، ومن كان اليوم صاحب منصب ففي الغد قد لا يكون فالأمور تتبدل، فانتبه لشخطاتك.