حوار مع صاحبي “الإسلامي الديمقراطي” ||كتابات فكرية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون
الأستاذ: الزبير أبو معاذ الفلسطيني
قال: ألا ترى أنه يجدر بكم إعادة النظر في موضوع المشاركة في الانتخابات؟
قلت متسائلا: ما الذي ستجنيه أنت من مشاركتك في هذه اللعبة الديمقراطية الخبيثة؟ هل تظن نفسك يا صاحبي تنصر دينك؟
قال: نحن ندور مع المصلحة، وأين ثمة مصلحة فثمة الإسلام.
قلت: إن الدين لا ينتصر بغير الدين، والطريقُ إلى الإسلام لا يمر من طريقٍ سِوَى الإسلام، والشريعة لا يمكن الوصول إليها بغير الشريعة.
والدليل هو أن مشروع “التدرج” الذي كنتم ترفعون شعاراته في وجوهنا قبل سنوات قد تم طي صفحته اليوم، بل منذ زمن؛ لأنه ببساطة لم يكن موجودا، فالديمقراطية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وهاك كل تجارب “الإسلاميين الديمقراطيين” في كل بلاد المسلمين، أعطني واحدة عادت على أهلها أو شعبها بخير في الدين؟! سَمِّ لي تجربة واحدة كان للإسلام والشريعة فيها حظ أو نصيب؟! بل لا يوجد تجربة إلا كانت الشريعة الإسلامية أول ضحاياها، بل أغلب تجاربكم ضاع فيها الدين ولم تَسْلَم الدنيا! فَهَلَّا تَعقِلُون وأنتم تُلدَغُون مِنْ نَفْسِ الجُحر مرة تلو مرة ثم تعيدون الكَرَّة وكأن شيئا لم يكن!
مشكلتكم يا صاحبي أنكم تخلطون بين مصلحة الحزب ومصلحة الإسلام، فما تفترضونه مصلحة لكم فهو بالضرورة مصلحة للإسلام! وهذه طامة تزداد سوءا عندما تعلم أنه حتى ما تظنونه مصلحة ليس كذلك! أنتم أدخلتم أنفسكم بحرا لجيا متلاطم الأمواج لا زالت تتقاذفكم داخله.
فهل تعتقد يا صاحبي أن قضيتك الفلسطينية ستنتفع بمشاركتك؟!
يا أخي لا تجعل ذاكرتك كذاكرة السمك، وانظر كيف كانت “المقاومة” قبل انتخابات عام 2006 وكيف أصبحت اليوم، أنا لا أتحدث عن “سلاح المقاومة” بل عن المقاومة نفسها، فلا تخدعن نفسك بمراكمة السلاح الذي أصبح للدفاع عن مشروع السياسيين الفاشل الذي لم يَنصُر دِينًا ولَم يُصلِح دنيا، بعد أن كان السلاح في السابق -على شحه- يؤرق اليهود ويجعلهم يتوسلون ويتسولون الهدوء.
هل تريد أن تنصلح أحوال الناس المعيشية؟
يا صاحبي: انظر حولك، انظر كَمَّ البؤس المعيشي الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة منذ انتخابات 2006، فإن قلتَ لي: إن هذه ضريبة الكرامة، ساعتها سأقول لك: عندما يدفع القادة معنا نفس الأثمان ساعتها حدثني عن ضرائب ومكوس الكرامة! فأي كرامة هذه التي نبحث عنها وقادة الفصائل جميعا بلا استثناء -لا أستثني منهم واحدا- قد تَدَلَّت كروشُهُم؛ وأبناء شعبهم يستجدون لقيمات تقمن أصلاب الأطفال! أي كرامة هذه؟!
وإياك أن تقول: إن قادتك أياديهم نظيفة! أنا لا أتحدث عن نهب أو سرقات، وإن كان الأمر لا يخلو، كما ولا أتحدث عن غِنًى فاحش، وهذا موجود فعلا في بعض قادتك، بل أقصد أنه لا يوجد أحد من قادتك أو قادة بقية الأحزاب يعاني واحد منهم شيئا مما يعانيه المعدمون والفقراء الذين يملؤون قطاع غزة ويزدادون يوما بعد يوم، لا يوجد قائد يبيت ليله جائعا هو وعياله، ولا يوجد واحد لا يجد بيتا يؤويه، ولا يوجد واحد لا يجد ثمن الدواء والعلاج وحليب الأطفال، ولا يوجد أحد منهم يعرف برد الشتاء وحر الصيف، أو يعاني أبناؤهم في توفير فرص التعليم أو العمل، ولا يوجد منهم من يتخفى عن أعين الناس هربا من دائنيه، كل القادة بلا استثناء يجدون كل متطلبات الحياة الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج وتعليم ومواصلات، وأغلبهم لديهم ما يزيد عن الحاجة ويعيشون حياة هانئة، ولا يعرفون من معاناة الشعب شيئا، ولم يشاركوا الفقراء فقرهم، رغم أن هؤلاء القادة هم أبرز أسباب الفقر والعوز! ومع ذلك لم يُصِبهُم ما تسببوا فيه! فأي مشروع سياسي هذا الذي يقوده من لم يذق المعاناة التي تسبب فيها لشعبه!
ثم تعال أجبني، هل تملكون حلولا الآن لأوضاع الناس المعيشية؟
الجواب لا، طيب من أين ستأتي الحلول بعد الانتخابات؟! أنا وأنت والجميع يعرف أن الانفراجات الاقتصادية مرهونة بما تقدمه الأحزاب من تنازلات سياسية، فهل تعتزمون التنازل بعد الانتخابات؟! إن قلت: لا، فالانتخابات إذن مجرد مسرحية يضيع فيها دين الناس، وإن قلت: سنتنازل لأجل الشعب، فلماذا بعد 15 عاما جئت لتتنازل! لماذا لم تتنازل لأجل شعبك منذ البداية!
وطالما أنك تريد التنازل فأنت تقر بفشل التغيير عبر الانتخابات الديمقراطية، فلماذا تريد أن تجلس فوق نفس الجحر الذي لُدِغْتَ منه! أين عقلك يا صاحبي!!
فإن قلتَ: وهل تريد منا أن نتركها للعلمانيين؟!
يا صاحبي من خدعك وقال لك: إننا نريد ذلك! من خدعك وجعلك لا ترى سبيلا لمغالبة العلمانيين إلا أن تسير مثلهم في طرق العلمانية!
نعم، فهذه الديمقراطية أزاحت الإسلام من قاموس فصائلكم “الإسلامية”، فأصبحنا بين علمانية أردوغانية وعلمانية عباسية، بل حتى شعارات الإسلام والحكم بالقرآن أصبحت من الماضي، ولغة قادتك علمانية صرفة، فلا تخدعن نفسك.
يا صاحبي، لماذا تتصور أن مغالبة العلمانيين لا تكون إلا بالتمردغ في أوحال نجاستهم ومشاركتهم هذه المستنقعات الآسنة! من ذا الذي أقنعك بهذا؟!
أنت كمن يريد أن يشارك السكارى شرابهم ويصبح من ندمائهم ويقارعهم كؤوسهم، وهو يظن أنه بذلك سيتمكن من تغيير حالهم!
جميع المشاركين اليوم ثمل بخمر الديمقراطية، يهرفون بما لا يعرفون، وبما فيه هدم القضية وتقويض الدين وهم يظنون أنفسهم يسيرون نحو التحرير ورفعة الإسلام! بل الغالبية العظمى من المشاركين لا وجود للإسلام في حساباتهم السياسية أصلا.
يا صاحبي: العيب عندك، وفي عقلك، عندما لا ترى سبيلا سوى هذه الديمقراطية فالعيب فيك، فلقد كَبَّلتَ نَفْسَك بقيود الواقع، وكلما أردتَ أن تشرأب بعنقك خارج الصندوق لتبصر الضوء= ارتد إليك بصرك خاسئا حسيرا وقد خوفك الشيطان بمن هم دون الله!
نعم، أنت كذلك.
تسير مع الركب كالقطيع نحو مراد أعداء الله وأعداء قضيتك الذين يُسَيِّرُونَك، تخشى أن تصيبك دائرة منهم لو أنك تمردت على خط سيرك المرسوم، لسان حالك: الأنظمة العربية ودولة اليهود وأمريكا أعز وأجل وأكبر! نعم، لسان حالك كذلك عندما تعاند من يريد لك الخير ويدعوك إلى العودة إلى كتاب الله وشريعته ومنهجه فتعترض بقولك: (هل تريد أن يفنينا الأعداء ويجتثونا ويتخطفوننا كما تتخطف الطير ويبيدوننا عن بكرة أبينا!).
وهذه نفس حجة الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا).
فيا هناءك وسعدك وأنت تحتج بما احتج به الكافرون أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم!
بل يا ويح نفسك ويا تعسها وأنت تتهم شريعة خالقك بأنها سبب شقائك وضياعك! واللهُ ربي ورَبُّك يقول: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى).
ويا صاحبي: هل تركك الأعداء بصنم العجوة الديمقراطي الذي صنعوه لك؟!
كأن الحروب التي مرت، والحصار الذي لم يَسلَم منه سوى القادة، وضياع الدين والأرض= كأن ذلك وغيره في قاموسك ليس حربا!
يا صاحبي: ألا توقن أن الله ناصرنا إن اتبعنا حكمه وأمره وشرعه؟! ستجيب بلى.
هل يقع في قلبك أن الأعداء الذين يحاربوننا أقدر من الله؟! ستنفي نفيا قاطعا.
لماذا إذن تركتم الاحتكام إلى شريعة الله وذهبتم إلى شرعية الصندوق! وتركتم التحاكم إلى شرع الله الْمُنَزَّل واستبدلتموه بشرع القانون الوضعي الْمُبَدَّل!
ألم يكن حريا بنا أن نواجه حرب الأعداء طيلة 15 عاما مضت ونحن متمسكون بكتاب الله وأحكام الله قدر استطاعتنا!
أقسم لك بالله غير حانث أن أغلب هذه الأعوام لم تكن لتمر بحالها الذي مرت به لو كانت شريعة الله تعالى هي المرجع.
فلا تكونوا يا صاحبي ممن جعل الله أهون الناظرين إليه.
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
هل تعلم يا صاحبي أنك تركتَ الطريق الأيسر التي شرعها الله لك لأنك تراها سَتُهلِكُك، وذهبْتَ إلى الطريق الأعسر وأنت تظن نفسك اخترت الأيسر! فالديمقراطية كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يهرول نحوه عطشا ظانا أنه سيرتوي، حتى إذا وصل بعد جهد وعناء عرف أنه سراب، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن ازداد عطشه وشارف على الهلاك.
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
ألست تؤمن أن الله ناصر عباده؟ ستقول لي: بلى، ثم ستتبعها بــ “لكن”!
أنا أقول لك: إنك تؤمن بهذا إيمانا نظريا لا حَظّ له عمليا في حياتك التنظيمية، تؤمن أن الله أقوى وأكبر وأعز وأجل، ولكنها الخشية من الأعداء كخشية الله أو أشد خشية، ولو صَدَقتُم لطَبَّقتُم ما استقر في قلوبكم من يقين.
سأعطيك مثالا:
الآن في قطاع غزة لو أنّ شُرطِيَّ مرورٍ مِنْ عائلةٍ بسيطة قليلة العدد قام بإيقاف موكب سياراتِ زفافٍ لعائلة من العائلات الكبيرة ذات العدد والنفوذ؛ لأنهم خالفوا الأنظمة المرورية= فهل سَيَخشَى منهم لأنه ضعيف وهم أقوياء؟
طبعا لا، هل تعلم لماذا؟
لأنه يَعلَم أنه يطبق قانون الحكومة، وأن الحكومة ستحميه.
ولله المثل الأعلى، فهل تعقلون؟
يا صاحبي: اعلَم أنّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّفنا بما لا نطيق، ولم يأمرنا بما لا نستطيع، وطريق التحرير ونصرة الإسلام لا يَكُون ولن يَكُون بغير طريق الجهاد في سبيل الله ذات الشوكة، لن يَكُون بغير المغالبة والتضحية تحت ظل أحكام الله، وضريبةُ هذا الطريق أقلُّ بكثيرٍ مِنْ كُلِّ طريقٍ سِوَاه.
والحقيقة هي أنك تريد الفرار من دفع التكاليف الأقل؛ لظنك أنها الأكبر، وتذهب إلى الطريق الذي ترتاح إليه نفسك بعيدا عن الطريق الذي تأباه نفسك (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ).
الحقيقة يا صاحبي أنك تريد طريقا لا يستفز عدوك ولا يجعلك مضطرا للمواجهة، وتريد الهروب من مشقة الطريق الذي أمرك الله به وضمن لك فيه إحدى الحسنيين (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ).
هذه هي الحقيقة مهما بررتم لأنفسكم؛ لأن الواقع يكذبكم، والشرع لا يسعفكم.
قد تعترض قائلا: إن “الديمقراطية مجرد آلية انتخابية”!
أقول لك: الديمقراطية يا صاحبي باختصار هي أن الله لا علاقة له بمن تختار، ولا سلطة لله على اختيارات “الناخبين”.
فإن كنت لا تعلم فاعلم أن لا علاقة للديمقراطية الغربية بالشورى الإسلامية؛ لأن الشورى في الإسلام هي المفاضلة بين صالِحٍ وصالِح، تختار من الصالحين من شئت، لأن الذي سيتم اختياره سينطلق من أحكام الشريعة الإسلامية دُونَ أنْ يَملِكَ قرارَ تجاوُزِها، ولو لم ينجح ونجح منافِسُه أَو مُنافِسوه فحالُهُم كحالِه.
أما الديمقراطية يا صاحبي فهي المفاضلة بين النظم والبرامج والشرائع، وليس بين الأشخاص فقط، فلو أن قائمةً انتخابيةً رَفَعَت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية وأخرى تنافسُها رَفَعَت شعار تطبيق القوانين الوضعية فإن للناخب هنا الحق الديمقراطي أن يختار بين شريعة الله وشريعة البشر!
بمعنى أنه وفقا للديمقراطية فإن شريعة رب العالمين تنتظر إذن الخَلْق لها ولولا إذْن الخَلْقِ ما قامَت شريعةُ الخالق!، وهي عندهم كشريعة البشر في “الحق الانتخابي”! وقد “تفشل” شريعة الله في الانتخابات و”تنجح” شريعة بعض البشر! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ولو افترضنا أن القائمة التي رَفَعَت شعارات تطبيق الشريعة الإسلامية قد “نجحت”، فهذا معناه أن شريعة الله تملك دورةً انتخابيةً واحدة، وأنها بعد أربع سنوات قد يرفُضُها الناخبون إذا تعارضت مع أهوائهم، ثم يختارون شريعة الدساتير العلمانية والقوانين الوضعية، ولا يَحِقُّ الاعترِاض لأنّه في الديمقراطية ما تعتبره حَقَّ الشعب مُقَدَّمٌ على حَقِّ الله تعالى! نعوذ بالله جل شأنه.
وهذا طَرْحٌ مَجَازِيٌّ صَرْف، فَلَم يَحدُث ولن يَحدُث أنّ الشريعة الإسلامية قامت عبر صناديق الاقتراع والديمقراطية، بل يكون التمكين عبر صناديق الذخيرة الحية، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
كما ولا تَنْسَ يا صاحبي أنك إن ذهبْتَ واخترتَ القائمة التي تطالب بشرع الله فأنت لا تملك الاعتراض على أهلك وشعبك وبني قومك إن أراد بعضهم اختيار قائمة القوانين الوضعية! وسترى بعينك شريعة الديمقراطية تعطيهم حَقَّ الكُفْر وتَمنَعُك مِنْ حَقِّ الاعتراض!
فكأنك تريد النجاة لنفسك باختيار الشريعة الإسلامية -على افتراض جدلي أنها إحدى الخيارات- ولكنك غششتَ الناس ولم تهتم بشأن المسلمين ولم يَعْنِك هلاكُهُم وتركتهم يختارون الكفر.
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وأرجو أنك تَعْرِف الفَرْق بين كفر العين وكفر النوع قبل أن تعترض.
فما بالك يا صاحبي ونحن مُقبِلُون على انتخاباتٍ لا توجد فيها قائمة واحدة تطالب بشرع الله! كلها قوائم ترفع شعار الإصلاح السياسي والاقتصادي، ومن داخل منظومة القوانين الفلسطينية الوضعية الوضيعة! ٣٦ قائمة تقدمت للمشاركة لا يوجد منها سوى قائمة واحدة محسوبة على “الإسلاميين”، ومع كونها كذلك إلا أنها أيضا لا تختلف عن الــ٣٥ قائمة الأخرى من حيث الأهداف والمصطلحات والمرجعية! فأين الإسلام والشريعة والدين يا أحزاب فلسطين!
وهذا نذير شؤم بأن الحال لن يتغير إلا إلى الأسوأ؛ لأن سبب الفساد الوحيد هو غياب حكم الله، وطالما بقيت الأحزاب مغيبة شرع الله وحُكمَه ومرجعيَّتَه وأمْرَه ونَهْيَه= فسَيَبقَى الحال من سيئ إلى أسوأ، لأن الصلاح فقط يكون بالانطلاق من أحكام الله، وأن تَكُون الشريعة الإسلامية رئيسة لا مرؤوسة، سيدة لا مَسُودَة، حاكمة لا محكومة.
وتذكر يا صاحبي:
أن الديمقراطية هي اختيارُ الناس لــ (ما) يَحكُمُهُم؛ سواء أكان شَرْعَ الله أم سواه، فهذا متروك لأهواء الناس.
أما الشورى فهي اختيارُ الناس لــ (مَن) يَحكُمُهُم بشرع الله لا سواه، ولا يَمْلِك المُنتَخَب والمُنتَخِب إلا الإذعان والتسليم والاستسلام والانقياد لشريعة الله وحكمه.
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
ويا صاحبي تأمل معي هذه الآية، إن ربك الذي أقسم في الكثير من المواضع في كتابه بمخلوقاته= يُقسِم بذاته العلية في هذا الموضع، وعندما قال: (فَلَا وَرَبِّكَ) جعل الضمير عائدا على خَيْرِ خَلْقِهِ صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت في هذا القَسم بذاتِ الخالقِ مخاطَبةُ أشرفِ الخلق، كدليل على عِظَمِ أمْرِ التحاكم إلى شرعه جل شأنه، وأنه لا يكفي مجرد الاحتكام إلى شريعته سبحانه ليكتمل الإيمان، بل يجب أن ينتفي الحرج من النفوس، ثم يتم التسليم التام الكامل لشرع الخالق.
والديمقراطية يا صاحبي نزعت التحاكم إلى شرع الله من آلياتها الشركية، وجعلت الشعب هو الحَكَمَ والحاكِم، تخيل! ربي وربك ورب العالمين جعل التحاكم إلى شريعته أدنى درجات الإيمان الثلاثة عندما أقسم بذاته العلية، ثم انتفاء الحرج، ويليه التسليم التام؛ ليكتمل الإيمان، والديمقراطية نزعت التحاكم إلى شرع الله جملة وتفصيلا! فهل استحضرتَ في قلبِكَ عِظَمَ الجُرمِ الذي تَدفَعُون أنفُسَكُم والمسلمينَ إليه!!
وكأني الآن أستمع إلى صوتٍ داخلَ عقلك يقول لك: “هناك شيوخٌ لجماعتنا يعلمون بالتأكيد كل ما يقوله هذا المتحدث معي ولم يغب عنهم!” لكنك لا تجرؤ أن تجهر بحديث النفس هذا كي لا تظهَر محاولة الهروب من التفكير، وللتبرير لنفسك وإقناعها أن القضية ليست بهذا السوء!
وكأنك لم تر يا صاحبي أن آراء شيوخك قد جرتكم سابقا إلى الفشل الذي نراه ماثلا أمامنا اليوم بعد خمسة عشر عاما من تجربة تحكيم الطاغوت والقوانين الجاهلية وترك التحاكم لشرع الله جل وعلا، ومع ذلك تَعُودُ نَفْسُ الفتاوَى لتحرضَكُم وتحرِّضَ الناس على أن يعودوا لنفس الفخ الذي وَضَعتُم أرجلَكُم فيه راغبين، بعد أن كانت جماعتكم متحررة من قيود الحكم الوضعي الجاهلي الذي كبلتم أنفسكم بقيوده، فرأينا الفشل في أغلب -إن لم يكن كل- المستويات والمناحي، فعلى مستوى الدعوة لم تقدموا شيئا حقيقيا من خلال تجربة الحكم، بل حولتم المساجد إلى بؤر تنظيمية لنصرة حزبكم ومشروعكم، وتنازعتم مع جميع الأحزاب الأخرى على بسط السيطرة على المساجد مستغلين سطوتكم الحكومية، وضيقتم على كل من لم يوافقكم، فأصبحت الدعوة إلى الله شأنا حزبيا لنصرة الأحزاب والتنظيمات، والنتيجة ما نراه من انتشار للفساد الأخلاقي بصورة مطردة يوما بعد يوم، من تبرج وسفور واختلاط، بل هناك مؤسسات ترعى هذا الفساد وتنشر ذلك بطريقة منظمة، وأخرى ربوية تعلن الحرب على الله تنخر قطاع غزة وتحصل على “ترخيصها” من الحكومة! ناهيك عن الإدمان وحالات الانتحار التي لم نكن نراها من قبل!
كما وفشلتم في التربية الفكرية وتصحيح المفاهيم للمسلمين، ففي عهدكم ترسخ وتجذر الفكر الوطني الذي يقدم الوطن على دين الله وشريعته، والذي يجعل الوطن الحبل الذي يعتصم به الناس، والله أمرنا أن نعتصم بحبله لا بحبل الوثن، وبسبب هذا الفشل التربوي وجدنا شباب المسلمين ينقادون خلف التنظيمات العلمانية نكاية فيكم، رغم أن هذه التنظيمات ليس لها نشاط تنظيمي داخل قطاع غزة، بسبب منعكم لها؛ لا لأنها علمانية بل لأنها غريم سياسي لكم، ورغم ذلك فإن آلافا مؤلفة من شباب المسلمين ينساقون خلف هذه التنظيمات العلمانية، شباب لم يكونوا قد وصلوا سن البلوغ يوم أن سيطرتم على قطاع غزة وأخرجتم العلمانيين منه، فهم لا يعرفون عن العلمانيين شيئا، ولم يلتحقوا بهم تنظيميا، بل ويرون دعايتكم المناهضة لخصومكم العلمانيين، ورغم ذلك إلا أنكم لم تنجحوا حتى في تحييدهم، بل أصبحوا يخرجون بمئات الآلاف يهتفون للعلمانيين الخونة كلما سنحت لهم فرصة الخروج، ويملؤون الساحات بأعداد كبيرة، ويجعلون قطاع غزة أصفر خالصا من كثرة الرايات التي يرفعونها، والغالبية العظمى من هؤلاء الشباب التائه الضائع لم يكونوا يوما منتمين للتنظيمات العلمانية! فاتبعوا العلمانيين وناصروهم تحت حكمكم أنتم وأمام ناظريكم!
أما على صعيد الفشل الاقتصادي فحدث ولا حرج، تحول المسلمون في قطاع غزة إلى متسولين يصطفون بالمئات على أبواب المراكز المختصة بتوزيع المعونات المالية والعينية، وازدادت نسبة الفقر وتضاعفت أضعافا مضاعفة، وانتشرت البطالة حتى أصبح الشاب يصل سنا متقدمة دون عمل أو زواج، وتوسعت ظاهرة التسول من غزة إلى خارجها حتى أصبح الغزيون معروفين بهذا الأمر داخل مواقع التواصل الاجتماعي! والطامة أن قادتكم وقادة جميع الأحزاب لم يعرف الفقر لهم طريقا! كما ولم يسلم الناس من الضرائب والمكوس التي طالت كل شيء ولاحقت الفقير قبل الغني لكي تتمكن حكومتكم من البقاء! فأي فشل أشد من هذا!
واجتماعيا انقسم المجتمع بين الأحزاب المتصارعة، حتى وصل الحال إلى أن ينقسم البيت الواحد فيهجر الأخ أخاه، وأصبح الواقع نزاعا داخليا بين أنصار كل حزب؛ فرحين بما لديهم، وما عاد الاحتلال قِبلَةً تَجمَعُ الشعبَ المسلوبةُ أرضُه، بل ما عاد غريبا أن نسمع من بعض الناس أن حكم اليهود المحتلين خير من حكم الأحزاب الموجودة!
وعلى المستوى السياسي ازدادت وتيرة تهويد القدس واتسعت رقعة المستوطنات وازداد نفوذ اليهود في فلسطين وخارجها وأصبحت قضية اللاجئين الفلسطينيين في الخارج على أدنى سلم الأولويات، ولم يتحرر شبر واحد من الأرض، وكان آخر خروج لليهود من أراض فلسطينية قبل انتخابات عام 2006 بعام واحد، حتى وصلنا إلى صفقة القرن بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية قضية مساعدات ومعابر وتبرعات ومعونات، وانسلخت الفصائل الفلسطينية عن دورها المفترض القائم على مراغمة ومدافعة ومقاومة الاحتلال لتحرير الأرض، وأصبحت الكتائب العسكرية في قطاع غزة تراكم السلاح دون أن تجرؤ على تغيير المعادلة الدفاعية التي ارتهنت بها منذ انتخابات عام 2006، فلقد تغيرت استراتيجية العمل العسكري من الهجوم إلى الدفاع عن المشروع السياسي الفاشل، وفي الضفة الغربية تم إلغاء العمل بأقوى سلاح كان يهز دولة اليهود؛ وهو سلاح العمليات الفدائية، تم إلغاؤه منذ دخلتم الحكم كي لا يجلب عليكم النقمة الدولية! وعجزتم عن العودة إلى مربع العمل العسكري المؤثر داخل الضفة الغربية ومناطق الـ48 كما كان الحال قبل دخولكم الحكم الجاهلي، وهذا هو حال “المقاومة” اليوم رغم أن الفصائل باتت تمتلك سلاحا أضعاف أضعاف ما كان في السابق قبل أن تصلوا بالديمقراطية اللعينة إلى سدة الحكم بغير ما أنزل الله، قبل ذلك كانت المقاومة على شح سلاحها وبدائيته تؤلم العدو المحتل وتقض مضجعه.
ويكفي أن نقول لكم: إنكم حركة “إسلامية” ومع ذلك فشلتم في أن يظهر لــ “مشروعكم” السياسي أي مظهر إسلامي حقيقي! بل تتفاخرون بأنكم طيلة سني حكمكم قد طبقتم القانون الفلسطيني الوضعي والتزمتم بالدستور الفلسطيني العلماني، فأين التدرج المزعوم لتطبيق الشريعة الذي كنتم تحتجون به في البدايات؟! ألم تقتنعوا بعد أنه لم يكن ثمة مشروع تدرج! وأنكم منذ البداية أردتم مسايرة المجتمع الدولي لا التدرج في إقامة حكم الله، ولأن المصلحة عندكم لا ضابط لها جرفتكم التجربة حتى أصبحتم أشد تمسكا بالقوانين الوضعية الوضيعة من العلمانيين أنفسهم!
واليوم تريدون تكرار نفس التجربة بنفس الطريقة ومن نفس الطريق! وتطالبون المسلمين بالمشاركة في هذا الإفك، بل ويزعم الكثير منكم بأن المشاركة “واجبة” في هذه اللعبة الديمقراطية الخبيثة! يا صاحبي صدقني حتى وفق الحسابات المادية والعقلية البحتة فإنكم بعيدون جدا، فما بالك بميزان الشرع الذي يتصادم مع الديمقراطية تصادما لا تلاقي فيه!
يا صاحبي، هذا الحال هو ما كان يَحْذَر ويُحَذِّر منه القادة المؤسسون، كما قال الدكتور إبراهيم المقادمة تقبله الله في كتابه “معالم في الطريق لتحرير فلسطين”: (لا بد أن يأتي الجيش الإسلامي العظيم ليحرر فلسطين فيجد أمامه أبناء فلسطين يقومون بواجبهم وبدورهم في عملية التحرير، وأمام هذا المد الإسلامي لن تستطيع كل قوى البغي أن تصمد (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) إذن لا بد من قيام دولة إسلامية قوية تحمل الإسلام حملا حقيقيا تعتبر تحرير فلسطين واجبا شرعيا وليس مسألة مواساة ببعض الخيام والدواء والدقيق) اهــ.
يا صاحبي لو أقسمت لك فلست حانثا أنكم ذاهبون إلى المجهول، بل إلى طريق مسدود، وسعيكم الدؤوب لحجز مقاعدكم في هذه السلطة العلمانية تحت ظل الاحتلال= ليس إلا مسارعة في السقوط نحو القاع، ومهما حاولتم التبرير بأن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على “المكتسبات” وحماية المقاومة فإن هذا دليل على التخبط وضلال الطريق واختلال البوصلة، فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة كانوا يُعَذَّبُون ويُضطهَدُون وحينها عرض كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم المال والملك في مقابل أن يجدوا “حلا وسطا” يجمعهم معه ومع دعوته عليه الصلاة والسلام، ولو كانت مشاركة المجرمين السلطة والحكم طريقا لحماية الدعوة لفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت شدة بأس المجرمين وبطشهم، ولم يكن المسلمون يومها يملكون مالا ولا سلاحا ولا كتائب عسكرية مدربة، فهل قبل صلى الله عليه وسلم عرض أعداء دعوته -وهم بنو قومه وعمومته- الذين عرضوا عليه الملك عاما وهم عام (تداول سلمي للحكم) في مقابل أن يعبدوا رب محمد عاما ويَعبُدَ آلهتهم عاما؟ وهل عمل على أن يستغل العام الأول له في الحكم ليستطيع نشر دعوته ويجتهد لكي يقنع خصومه بالبقاء على عبادة الله، حتى إذا شارفت “دورته الانتخابية” على الانتهاء كان “خصومه السياسيين” قد اقتنعوا بدعوته وقبلوا بها؟ لم يحصل هذا، ورَفَضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُجرَّدَ المبدأ، ورَفَضَ أن يُعرَضَ دِينُ الله على أهواء البشر يقبلونه أو يرفضونه، رغم شدة الظلم الواقع عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، فالدعوة الإسلامية لا تقبل أن تكون عُرضَةً للمساومة، وحَمَلَةُ رايَتِها لا يَرَوْنَ الأذى في سبيلها سببا للتفريط في أن تكون ظاهرة ومهيمنة على سائر الدعوات والمناهج والأديان، ويأنفون أن يستصلحوا بعقولهم وسائل لنصرة دعوتهم بعيدا عن الوسيلة والطريق الذي اختاره الله لهم وأمرهم به.
وبعد هذا الاستطراد يا صاحبي إن كنت لم تقتنع بعد بفساد هذه الانتخابات الديمقراطية تحت هيمنة الاحتلال= فلعل من تتغنى بهم وتحتفل سنويا بذكراهم يُقنِعُكَ كلامُهُم، رغم أننا نُذَكِّرُكُم به دائما وتديرون ظهوركم له دون أن تجدوا ما تبررون به التناقض البَيِّن بين حال قادتكم السابقين وحال قادتكم الحاليين، نذكرك -ولن نَمَلَّ- بقول الدكتور عبد العزيز الرنتيسي تقبله الله في آخر ما كتب قبل أن يقتله أعداء الله اليهود تحت عنوان “هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟”: ( أي حكومة تقوم في ظل الاحتلال، وبإذن منه، لا بد أن تستوفي الشروط التي يضعها جنرالات الاحتلال، وهذه الشروط لن تكون إلا لصالح هذا الاحتلال، ولا يمكننا أن نخدع أنفسنا فنتصور أن الاحتلال يمكن أن يقدم مصلحة عدوه على مصلحته، ولا يمكننا أن نتصور أيضا أن مصالح الاحتلال تتقاطع مع مصلحة الشعوب المقهورة المستضعفة التي تقع في قبضته، اللهم إلا إذا كان سيف المقاومة مسلطا على رقاب المحتلين عندها تكون مصلحة الاحتلال في الفرار من جحيم المقاومة) اهــ.
والحمد لله الذي عافانا من الغواية.
ونسأله سبحانه الهداية والثبات على الهداية.
ونشهد أنه لا شريك له في حكمه وأمره وشرعه..
والحمد لله رب العالمين.