توديع المجاهد واستقباله || الركن الدعوي ||مجلة بلاغ – العدد ٢٥ – ذو القعدة ١٤٤٢
مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة آداب أوقات الحروب والمعارك كان يعلمها للصحابة رضي الله عنهم قبل الغزو وأثناءه وعند انتهائه، وحديثنا اليوم عن: تشييع الغزاة وتوديع المجاهدين واستقبالهم.
* تشييع الغزاة:
التشييع مشتق من شيع يشيع تشييعا، وهو التوديع، وشيع الزائر إذا خرج معه ليودعه، ومنه تشييع الجنازة وهو المشي وراء الجنازة وحملها إلى القبر.
ومنه أيضا تشييع المجاهدين عند خروجهم للغزو والجهاد في سبيل الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشيع الصحابة رضوان الله عليهم عند خروجهم إلى الغزو، ويوصيهم بعدد من الوصايا ويبلغهم بعض الأحكام قبل الخروج.
فعن بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل وبمن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغُلّوا ولا تغدروا».
أما عن خروجه من المدينة وتشييعه للغزاة عند خروجهم وتوديع السرية الغازية: فقد روي عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن أشيع مجاهدا في سبيل الله فأكفه على رَحْله غدْوَة أَو رَوْحَة، أحب إِليّ من الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا».
والدلائل على هذا الفعل كثيرة منه صلى الله عليه وسلم -حين لم يكن يخرج مع الجيش غازيا-: فمنها ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ حِينَ وَجَّهَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ».
وهذا أيضا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حين شيع جيشا فمشى معهم، فقال: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اغْبَرَّتْ أَقْدَامُنَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّمَا شَيَّعْنَاهُمْ، فَقَالَ: جَهَّزْنَاهُمْ وَشَيَّعْنَاهُمْ وَدَعَوْنَا لَهُمْ”.
وحين أرسل سرية للجيش نحو الشمال جهة الشام، خرج رضي الله عنه يشيعهم وهو على راحلته.
وخرج أبو بكر الصديق مع يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما يشيعه وهو غاز تجاه الشام فجعل يوصيه وهو يمشي معه فقال له: «إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ. فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ. وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنَ الشَّعرِ. فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ. وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ».
وكذلك فعل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن حنش بن الحارث، عن أبيه، قال: “لَمَّا وَجَّهَنَا عُمَرُ إِلَى الْكُوفَةِ، مَشَى مَعَنَا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، فَوَدَّعَنَا وَدَعَا لَنَا، ثُمَّ قَعَدَ يَنْفُضُ رِجْلَيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ رَجَعَ”.
* الأذكار الواردة عند سفر المجاهدين:
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أذكار كان يلقنها للمجاهدين حين يودعهم عند خروجهم للقتال:
فعن عبد الله بن يزيد الخطمي رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْدِعَ الْجَيْشَ قَال: أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ».
وقال مجاهد: “خرجت إلى العراق أنا ورجل معي، فشيعنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فلما أراد أن يفارقنا قال: “إنه ليس معي ما أعطيكما، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استُودع الله شيئاً حفظه»، وإني أستودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم عملكما”.
* استقبال المجاهدين:
ومن آداب الجهاد ومن الحقوق على من بقي جالسا في بيته ولم يخرج للغزو أن يخرج لاستقبال المجاهدين والترحيب بهم عند عودتهم، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله لذلك بابًا أسماه “بَابُ اسْتِقْبَالِ الغُزَاةِ”.
فيستحب لمن بقي في المدينة ولم يخرج للغزو أن يستقبل المجاهدين العائدين من الغزو مبينا لهم عظيم امتنانه وتقديره لما قدموه من التعب والنصب والمشقة وشدة مفارقة الأهل والخلان وعظيم قدر التعرض لأنواع العذاب من تحمل شدة الحر أو البرد والجوع والعطش والخوف والجراح، وأنه بسببهم حفظت بيضة المسلمين وأعراضهم وأموالهم ودينهم، ولهم فضل في بقاء الناس في بيوتهم آمنين، فاستطاعوا النوم وهم قريرو الأعين، واستطاعوا ممارسة حياتهم المعيشية بوجود هذه الثلة المجاهدة الصابرة التي كفتهم القتال وصدت صائلة الأعداء عنهم، فاستقبال المجاهدين اتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولما فعله الصحابة والتابعون من بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين.
فقد خرج أهل المدينة فرحين منشدين يستقبلون رسول الله صلى الله عليه وسلم بلهفة وشوق حين قدم المدينة من تبوك، يقول ابن القيم رحمه الله: “فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا … مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ
وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا … مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعِ”.
قال السائب بن يزيد رضي الله عنه: «ذَهَبْنَا نَتَلَقَّى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ».
واستقبل أهل المدينة جيش المسلمين القافل من غزوة مؤتة وجعلوا يعنفونهم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الفعل ويقول: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللهُ».
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: «كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مَرَّةً مِنْ سَفَرٍ، قَالَ: فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ، إِمَّا حَسَنٌ، وَإِمَّا حُسَيْنٌ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ. قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلاثَةً عَلَى دَابَّةٍ».
ولما وصل المسلمون المهاجرون من أرض الحبشة وفيهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قَدِمَ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أَفْرَحُ؛ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ، أَوْ بِفَتْحِ خَيْبَرَ؟ ثُمَّ تَلَقَّاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَالْتَزَمَهُ، وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ».
* الخاتمة:
هذه سنة نبوية مهمة تتعلق بتوديع المجاهد للغزو وتذكيره بالله عز وجل واستقباله عند عودته، لها عظيم الأثر في نفس المجاهد الذي يقدم روحه رخيصة في سبيل الله عز وجل، ابتغاء لمرضاته، ونصرة لدينه، المجاهد الذي يجوع ليشبع الناس، ويخاف ليأمنون، وكل ذلك في سبيل الله.
فلا أقل عند توديعه للغزو أن نشعره أنه ترك أهله بين أناس سيخلفونه عند غيابه في أهله بخير، وبهذا الفعل يكون للخالف نفس أجر الغازي، قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ خَلَّفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ الله فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا».
وأما عند استقباله حال عودته من الغزو فنشعره بعظيم فعله وما قدمه في سبيل الله عز وجل من حفظ الدين والنفس والمال والأرض والعرض، وأن أجره على الله عز وجل وهو عظيم جدا، سواء أكرمه الناس أم نسوه.
– أسأل الله عز وجل أن يحفظ المجاهدين والمرابطين من أمامهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم وأعوذ بعظمته أن يُغتالوا من تحتهم، وأن يعيدهم لأهلهم وأحبابهم سالمين غانمين.
وأسأله تعالى أن يجعلنا وأبناءنا خير خلف لخير سلف في الثغور وفي المدينة، في المعارك وفي المجتمع، نتعاهد المجاهدين والمصابين والجرحى وأهليهم وأهالي الشهداء بالخير والرعاية والعناية حال غيابهم وإصابتهم واستشهادهم، ونحافظ على إرثهم وما قدموه في سبيل حماية الدين والعرض والأرض ليبقى شرع الله عز وجل يحكمنا، ولتبقى جذوة الجهاد مشتعلة وضاءة يهتدي بها أبناء الأمة الإسلامية، ويتفيؤون في ظلالها، ويسيرون على دربها.
والحمد لله رب العالمين.
بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٢ هـ