الشمس واحدة؛ ولكن اختلف النُّظار! – مجلة بلاغ العدد ٦٦
الشيخ: المنصور بالله الحلبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تمر أربع سنوات على جائحة كورونا، حيث خاف الناس منها، وأخذوا أسباب الوقاية لأجلها، وكان من آثار هذا المرض أن المصاب به لا يشعر بحاسة الذوق والشم، فكان من يأكل الحلو كالذي يأكل الحامض، والذي يأكل الحر كالذي يأكل المر، فالأمر سِيّان عند المصابين، فما اختلفت الأطعمة بذاتها، ولا استعارت طعماً آخر مع طعمها، ولكن اختلف الآكلون، وهذا يأخذ بيدنا إلى بابٍ واسعٍ لا يغلق، وكمٍّ هائلٍ من المواقف المتكررة في حياتنا اليومية، سواء كان موقفاً يتعلق بالدين أو الدنيا.
فتأمل معي قصة سيدنا عيسى عليه السلام، فقد جاء من أمٍّ بلا أب، والله قادرٌ على كل شيءٍ فيخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فكانت هذه الحادثة هداية لأقوام، وضلالاً لآخرين.
فالموحدون المؤمنون بالله ينظرون إلى هذه القصة فلا يعجبون ولا يتحيرون، بل يزداد إيمانهم بالله، ويعظم قدر الله في قلوبهم، وما هذه إلا آيةٌ من آيات الله الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، ولسان حالهم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
وأما أصحاب الأهواء والضلال فإنهم يزدادون بهذه الآية مرضاً فوق مرضهم، وشكاً فوق شكهم، وكأنهم لم يروا أعظم من هذه الآية! وكأنهم لم يعلموا أن الله خلق سيدنا آدم عليه السلام بلا أمٍّ وبلا أب!، فادّعَوا أن عيسى ابن الله، أو أنه هو الله، أو أنه ثالث ثلاثة؛ تعالى الله عما يقولون.
وكما تعودنا من اليهود بأخلاقهم السيئة، وأقوالهم القبيحة، وكفرهم بالله من الماضي، ولا عجب فقد قتلوا أنبياءهم بغير حق..
فقالوا: (إن الصديقة مريم قد زنت)، (وأن سيدنا عيسى ابن زنا حاشاه وحاشاها)، وحاشى لله أن يرسل ابن زنا رسولًا من عنده على عباده ولعنة الله على اليهود وإخوانهم..
وتعال معي لنبصر آثار هذه القصة عبر التاريخ:
فجرت الحروب الطاحنة بين النصارى أنفسهم، وبين اليهود والنصارى وبين المسلمين والنصارى، وستمتد رقعة المعارك الزمانية والمكانية مع النصارى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولب القضية وأساس الاختلاف “أن عيسى جاء من أمٍّ بلا أب”.
وهكذا هي النفس البشرية؛ تفسر الأشياء بقناعاتها المسبقة، وتأخذ بأيدي الأدلة لتؤيد رؤيتها، وتلوي أعناق النصوص لتوافق هواها، وكل يدعي سلامة منهجه، وأحقية قضيته، وصحة اختياراته، فهو المفلح وغيره خاسر، وهو الناجي وغيره هالك، “وكل يدعي وصلا بليلى”.
*فالانهزاميون يأخذون من الدين كلمات السلم والهدنة ونحوها، ويتركون الأدلة الثانية التي تجعل من الدين الإسلامي منهجًا متكاملًا، ودستورًا للحياة، ثم يقيمون بناءهم الفاسد وطريقهم المعوج.
*والديمقراطيون يمسكون بكلمة “الشورى” ويعضون عليها بالنواجذ، ويقلبونها يمينًا وشمالًا، ويُجرون عليها عمليات التشويه حتى تكون جاهزةً بمعناها المرسوم في أذهانهم.
وكذلك أهل البدع من القدرية والمعتزلة والجبرية وغيرهم وهم كُثُر.
*والأرضية التي تجمع هذه الطوائف أنهم يضعون في أذهانهم فكرةً مسبقةً، وقناعةً مرسومةً، وهيكلًا مصورًا؛ ثم يُقبلون على القرآن فيجعلونه عِضين، يقتصون منه ما يؤيدهم، ويردون ما يبطل حجتهم، فالقالب عندهم هو الغالب، ولن يعدم المبطل أن يتعثّر بعذرٍ يبرر فيه باطله..
فأكفر خلق الله هو إبليس، أبى السجود لآدم عليه السلام كِبرًا وعنادًا، والحُجة؛ {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف:12]
فما اختلفت الآيات؛ ولكن اختلف المفسرون..
وما تبدل القرآن؛ ولكن تبدل الآخذون..
وما تغيرت الحقائق؛ وإنما اختلف المُؤوّلون..
فالشمس واحدة؛ ولكن اختلف النُّظّار!!
والمُوَفق من أقبل على تفسير الحوادث بعين القرآن وهداية السنة فيَصل إلى الطريق الحق والصراط المستقيم بإذن الله.
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا