الجهاد سياحة المسلمين – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٤٢ – ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
معنى السياحة:
السياحة في اللغة: هي الذهاب في الأرض للعبادة، وذلك بالابتعاد عن أماكن اجتماع الناس ولهوهم وأشغالهم، للتفرغ للعبادة.
وأما في العرف الشعبي المعاصر فهي التنقل من مكان لآخر لمدة محددة بقصد الزيارة أو الاستجمام أو قضاء أيام العطلة أو البحث والتعرف على مكان جديد للتمتع بطبيعته أو مناخه أو محاولة استكشافه أو العلاج أو التسوق أو التجسس…
السياحة في الإسلام:
قال السعدي رحمه الله في تفسير صفة السائحين الواردة بين صفات المؤمنين في قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ): “فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك”.
الجهاد سياحة المسلمين:
بما أن لفظ السياحة في الإسلام يعني السفر في القربات، فإن من أفضل وأولى ما يدخل في ذلك هو الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قَالَ رَجَلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى».
وتبرز معاني السياحة في الجهاد في صور عديدة منها:
– الهجرة في سبيل الله تعالى: كما حصل مع المسلمين في بداية الدعوة الإسلامية في مكة حين هاجروا بدينهم إلى أرض الحبشة ثم المدينة، وقد بشر الله المهاجرين في سبيله السائحين في الأرض المفارقين لديارهم بالخير العميم، فقال جل وعلا: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، قال السعدي رحمه الله: “فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم”.
والهجرة في سبيل الله فرارا بالدين تشمل الرجال والنساء، ولذا فإن النساء يمكنهن الدخول في وصف السائحات كذلك بأعمال منها الهجرة في سبيل الله؛ فقد امتدح الله المؤمنات بذلك، فقال جل وعلا: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ).
– السفر إلى أرض المعارك: فالجهاد يحتاج عادة إلى سفر وسير وضرب في الأرض، كما قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا)، قال الطبري في تفسير معنى الضرب في سبيل الله: “إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم”.
– الإكثار من العبادات في حال الجهاد، فتتحقق بعض أنواع العزلة عن الناس ومجاهدة النفس، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
من فوائد سياحة الجهاد:
– سبب لنيل الأجر آناء الليل وأطراف النهار: فإذا خرج المجاهد من بيته وأرضه إلى الجهاد في سبيل الله تنزلت عليه الرحمات، “جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ» قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلاَ تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلاَ تُفْطِرَ؟»، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟“.
– سبب لزوال الهم والغم: فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، إِنَّهُ لَيُنَجِّي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ» رواه أحمد.
– سبب لزيادة المحبة والمودة والتآلف بين المسلمين: قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) ففي سياحة المسلمين بالجهاد تنشأ بين المسلمين صلة وتعارف وبذل وتضحية ونصرة، ويتناقلون فيما بينهم خبرات قومهم وأخبارهم وما وصلوا إليه، وبهذا تفتح آفاق المحبة والمودة والتآلف.
وإذا كان الحج مجمعا أياما معدودات يتلاقى فيه المسلمون من شتى بقاع الأرض، فإن الجهاد في سبيل الله مجمع دائم يجمع المجاهدين من شتى بقاع الأرض على نصرة الدين والمستضعفين من المسلمين.
– سياحة الجهاد فرصة للتفكر في الكون: فنحن مأمورون بالتفكر في ملكوت السموات والأرض، ومما يعين على ذلك السير في الأرض، فيجمع المجاهد في سفره وسياحته بين الجهاد في سبيل الله والتأمل والتدبر، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
* فمن أراد الرفعة والعز والنصر والفتح والتمكين، وإزالة الهم والغم عن قلبه، والفوز بالجنة والنجاة من النار، ونصرة دين الله عز وجل، والدفاع عن المستضعفين، وحماية المقدسات والحرمات، ومعرفة أخبار الشعوب وطباعهم وعاداتهم، واكتساب مهاراتهم وعلومهم، والتفكر في ملكوت السموات والأرض، ودوام الأجر دون انقطاع، والسياحة في طول الأرض وعرضها، فعليه بالجهاد في سبيل الله “سياحة المسلمين” في الأرض.
– اللهم ارزقنا سياحة إلى بيتك الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى آمنين مطمئنين، وارزقنا سياحة في طول الأرض وعرضها، ندافع عن ديننا ومقدساتنا وأرضنا، ونخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فاتحين مكبرين مهللين حامدين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين..
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ BDF اضغط هنا