يضحك لهم الرب تبارك وتعالى -كتابات فكرية – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٥ – ربيع الأول ١٤٤٦ هـ

الأستاذ: حسين أبو عمر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين، وعلى آله وصحبه الأبطال الميامين، وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين..

أما بعد؛

فإن للجهاد منزلةً عظيمةً في الإسلام، فهو أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله، وذروة سنام الإسلام؛ وبه يميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم الصابرين، ويمحِّص المؤمنين، ويتخذ منهم شهداء.. وبه تقوم الأمة، وتُحفظ الملة، ويُنصر المستضعفون.. وبه يخزي الله الكافرين، ويعذبهم، ويشفي صدور قوم مؤمنين.. وبه يُقام الدين، ويُحكَّم شرع رب العالمين..

 ولمكانة الجهاد في الإسلام وعِظم أهميته، تكيفت الكثير من شرائع الإسلام وأركانه معه حال تعينه، إذ به تُحفظ هذه الشرائع والأركان: فالصلاة تتغير هيئاتها حال الخوف في الجهاد وتلاقي الصفوف، والصوم يؤجل ويستحب الإفطار في نهار رمضان حال الحاجة لذلك في الجهاد، والحج يؤجل حال تعين الجهاد، وإقامة الحدود تؤجل، وهكذا…

 

ومن عظمة هذه العبادة الجليلة، التي تكيفت معها أركان الإسلام، أنْ شرع الله -عز وجل- تنوُعًا في أسبابها وأهدافها، وجعل مرونةً في شروطها وأساليبها..

 فالمسلم يُجاهد لإقامة الدين وتحكيم شرع رب العالمين، ويُجاهد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ويُجاهد في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، ويُجاهد دفاعًا عن الأرض والأموال والعرض، ويُجاهد في سبيل فكاك الأسرى والأسيرات، ويُجاهد من أجل إحداث النكاية في الأعداء واستنزافهم، وينغمس طلبًا للمنازل العالية في الجنة..

لكن هذا التنوع في الأهداف لا يعني أن يُقاتل المسلم تحت راياتٍ أو لغاياتٍ غير مشروعة، بل يلتزم بالغايات التي شرعها الله للقتال؛ وأفضل ذلك وأعلاه أن يبقى محافظًا على نية القتال حتى تكون كلمة الله هي العليا، حتى وإن كان قتاله لن يوصل إلى هذه الغاية فيما يظن؛ أولًا: لأنه يؤجر على هذه النية العظيمة. وثانيًا: لأن الوصول إلى تحقيق هذه الغاية العظيمة هو عمليةٌ تراكميةٌ؛ فمجموع العمليات والمعارك والحروب هو الذي يساهم في استنزاف وإنهاك أعداء الدين، ومن ثم يوصل في النهاية إلى أن تكون كلمة الله هي العليا.

 

أما المرونة في الشروط، فقد أسقط الله كل الشروط حال تعين الجهاد، فيخرج المجاهد دون إذن الوالدين، ودون إذن الدائن… فمتى تحققت لديه القدرة، وارتفعت عنه الأعذار يُجاهد المسلم -بل وكم جاهد واستشهد من أهل الأعذار من المسلمين- ويجاهد المسلم حتى ولو كان وحده، قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84].

وأما استراتيجيات وأساليب القتال، فلم يُقيدها الشارع -عز وجل- بنوعٍ معينٍ، وإنما تُركت مفتوحةً بحسب ما تقتضيه المصلحة، والإمكانيات والظروف؛ فمن استراتيجيات عمليات وحروب الاستنزاف الانتهاك إلى استراتيجيات حروب الفتح والتمكين، ومن أساليب حرب الجيوش، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4] إلى أساليب حرب العصابات، إلى أسلوب الذئاب المنفردة؛ {فقاتل فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] إلى الدمج بين عدة أساليب؛ كما حصل من بعض المسلمين في الكثير من غزواتهم..

لكن هذا التنوع في الخيارات لا يعني أن يختار المسلم منها بالهوى والتشهي، أو بما يحقق له مكاسب شخصية على حساب مكاسب كبرى للأمة، وإنما أن يستعمل المجاهد الأسلوب الأنسب لظروفه وإمكانياته، والأكثر فاعلية، الذي يحقق أكبر نكاية في الأعداء، ويجلب للأمة أعظم المصالح، ويدرأ عنها المفاسد..

روى ابن إسحاق في «السيرة»: “أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرا، فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل”..

عوف بن الحارث -رضي الله عنه- هو أحد الثلاثة الذي خرجوا للمبارزة قبل بدء القتال يوم بدر، ثم عندما اشتد القتال وحمي الوطيس، ذهب يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- “ما يضحك الرب من عبده”!

وربما لا نستشعر أنا وأنت ما كان يشعر به عوف؛ فنعجب من سؤاله!

تأمل! أن يضحك لك مَن تحذره وترجوه.. مَن تخاف منه وتطمع بما عنده.. مَن تعظِّمه وتقدِّسه.. مَن تحبه وتشتاق إليه.. مَن تعبده وتتقرب إليه.. مَن عطاؤه جنان وعذابه نيران.. مَن إليه المرجع وحسابه على مقدار الذرة.. مَن إذا ضحك لعبدٍ فلا حساب عليه.. حُقَّ لعوف أن يسأل مثل هذا السؤال، وأن يُقدم مثل هذا الإقدام..

 

ولكَم سار على نهج عوف بن الحارث -رضي الله عنه- من أصحاب الهمم العالية من أبطال أمتنا من لدن الصحابة إلى يومنا هذا..

ومن هؤلاء العظماء أنس بن النضر -رضي الله- وقصته رواها أنس بن مالك -رضي الله عنه- وقد جاءت في البخاري ومسلم. قال: «لما انكشف الناس يوم أحد تقدم أنس بن النضر، قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو أين؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد، فقاتلهم حتى قتل.. قال: ونزلت هذه الآية: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه».

ويا لله ما أعظمها من منقبة! أن يمتدح الله عبدًا! وأين؟ في القرآن العظيم!

ومن هؤلاء الأبطال الدكتور الأردني همام البلوي، القائل: “ما تمنيت من قبل أن أكون في غزة، ولكن اليوم أتمنى هذا (وأنا رجل قتلته أمانيه أو يرحم الله بحاله) … لأكون قنبلة هاون يضعها الموحدين في مدفعهم ثم يكبرون علي، أو أكون مفخخة تعمل كسيارة تكسي توصل أكبر عدد من اليهود إلى جهنم وبئس المصير..

ويكأني أشتم عبق الجنة تهب رياحها من صوب غزة هاشم»، فأكرمه الله بعملية “خوست”، التي قتل فيها تسعة أشخاص، سبعة منهم ضباط في CIA..

 

ولن يكون آخرهم -بإذن الله- البطل الأردني ماهر الجازي، منفذ العملية الانغماسية على المعبر بين الأردن والكيان الصهيوني، التي قتل فيها ثلاثة صهاينة، نسأل الله أن يتقبله في الشهداء وأن يكون ممن يضحك لهم الرب تبارك وتعالى..

والدكتور همام البلوي، عندما لم ييسر الله له طريقًا إلى غزة، فتح له ما هو أفضل من الذهاب إلى غزة، ففعل ما لم تستطع فعله دول عظمى. وكذلك ماهر الجازي -تقبله الله-، يسر له نكايةً في الأعداء أفضل مما لو كان في غزة.. وهكذا لقد رأينا مرارًا كيف استطاع أبطال العمليات الانغماسية بسلاحٍ فرديٍ، وأحيانًا بسكينٍ، وأحيانًا أخرى بالدهس بالسيارات، فعل مالم تستطع فعله جيوش.. وهذا من يسر شريعتنا، ومن عظمتها في صناعتها للنفوس العظيمة؛ بل وما شرع الله -عز وجل- هذا التنوع في الغايات والأسباب وفي الاستراتيجيات والأساليب إلا لتكون الشريعة الخاتمة صالحةً للتطبيق في كل زمان ومكان، وفي أشد الظروف..

نسأل الله أن يجعلنا ممن يضحك لهم ربهم، وأن يختم لنا بشهادة في سبيله، وأن يجعلنا ممن يتلبطون في الغرف العلى من الجنة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى