هل تُغلق مساجد إدلب؟ للشيخ أبو اليقظان

هل تُغلق مساجد إدلب؟
مجلة بلاغ- العدد العاشر- شعبان ١٤٤١March 29, 2020

الشيخ: أبو اليقظان محمد ناجي

قال ابن القيم رحمه الله في “إعلام الموقعين عن رب العالمين”: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا).

مع سقوط خان شيخون وما حولها، ثم سقوط معرة النعمان وأريافها، وسقوط مناطق شاسعة من أرياف حلب الجنوبي والشمالي والغربي، شهدت الأراضي المحررة حركة نزوح لمئات الآلاف من النازحين الذين نزلوا ضيوفا دائمين على ذويهم وأقاربهم أو لجؤوا إلى مخيمات التهجير التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، في واقع مرير يُنذر بوضع كارثيّ لو انتشر بينهم فيروس كورونا نسأل الله العفو والعافية.

ومن تأمل واقع الأراضي المحررة في الشمال السوري يعلم استحالة فرض حظر تجوال أو حتى منع الناس من كسب معاشها؛ من تجارةٍ وزراعةٍ ورعيٍ وأعمالٍ حرفية، هذا فضلا عن استحالة إغلاق المحلات والأسواق والمطاعم ومنع حركة المواصلات.

ومن المعلوم أننا في الأراضي المحررة نعيش حربا ضروسا ضد نظام مجرم يسانده احتلال روسي إيراني. هذه الحرب تحتاج تبديل نوبات رباط وتدريبا في معسكرات الإعداد واستعدادا دائما لأي عمل عسكري مما يستلزم وجود تجمعات.

وإنني حين أعجب من هذه الأصوات النشاز التي تُربك صفنا الداخلي وتبث الهلع والفزع بين الناس بالمطالبة بتعليق صلاة الجمعة وإغلاق مساجد إدلب أوجه لهم بعض الأسئلة:
– هل ستتوقف الحياة في الأراضي المحررة وهل سيُفرض بها حظر تجوال؟ وهل ستغلق المحلات والأسواق والمطاعم؟
– كيف ستُحل مشكلة المخيمات المزدحمة؟ وهل سنوفر لسكانها دورات مياه مستقلة ومنافع خاصة لكل خيمة؟
– ما هو مصير السجناء المكدسين في زنازين تُعد حاضنة لانتشار فيروس كورونا؟
– بعد انتشار فيروس كورونا في تركيا، هل سيُمنع الجنود الأتراك من دخول الأراضي المحررة؟ وكيف سيُطبق العزل والحجر الصحي على آلاف الجنود الذين يدخلون بصورة مستمرة من تركيا؟

بيوت الله في أرضه هي أطهر البقاع وأحبها إلى الله؛ قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، وفي صحيح ابن خزيمة: “بَابُ تَطْيِيبِ الْمَسَاجِدِ”، وروّادها شارتهم الطهارة؛ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}، {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.

مَسَاجِدَ إدلب.. نوحي في بَوادينَا – وَاسْتَمطِري مِنْ هَوانٍ صَدْحَ.. آمينا.
وَأَذْنِي في مَواتٍ ليسَ يوقِظُهُ – صَوْتُ الأذانِ، ولا صَمْتُ المُصَلِّينا.
وَالصَّمْتُ مَوْتٌ، لذي مَجْدٍ، وذي شَرَفٍ – وَحُرمَةٌ، مَنْ أَتَاهَا لا يُوالينا.
تَهْفو إليكِ قُلُوبٌ رَجَّها وَلَهٌ – لِلَحْظَةٍ مِنْ عَزيزِ البَأْسِ يَأْتينا.

مساجد إدلب هي أفضل مكان يأمن فيه الناس على أنفسهم من انتقال العدوى إذا ما قورنت بتكدس الناس في المخيمات والبيوت والمعسكرات. ومن فضل الله علينا في الأراضي المحررة كثرة المساجد واتساعها وجودة تهويتها والقيام على نظافتها، فلا توجد زوايا أسفل البنايات والعمارات، ولا توجد مساجد في أقبية البيوت.
في مدينة إدلب وحدها ٤٥ مسجدًا، لا يشغل المصلون ثلث مساحة مساجدها في الصلوات الخمس؛ ففي أكبر مساجد مدينة إدلب وهو “جامع سعد بن أبي وقاص” يترك المصلون الخمسة صفوف الأول فارغة ويصلون في وسط المسجد تاركين خلفهم أكثر من خمسة صفوف أخرى فارغة!
وفي صلاة الجمعة يمكن تعدد الجمع في المساجد والمصليات، هذا فضلا عن المساحات الشاسعة الفارغة حول المساجد التي يمكن استغلالها في صلاة الجمعة.
ففي مدينة الدانا مثلا يوجد 11 مسجدًا تقام فيها الجماعات والجمع و4 مصليات تقام فيها الجماعات دون صلاة الجمعة. وفي مدينة أطمة 8 مساجد تقام فيها الجمع والجماعات و4 مصليات تقام فيها الجماعات دون صلاة الجمعة. وبإقامة الجمعة في هذه المصليات يمكننا منع الزحام والتكدس في المساجد الكبيرة.

منابرنا دومًا تبث مواعظًا وتهدي الرشاد والنصيح لمرشد.
فكم جهبذ، كم عالم، أنجبت لنا تقي نقي بارع ومسود.
أعيدوا أهل إدلب سامق مجدها ورعيا لآداب وحسن تعبد.
وقوموا بها كنسا وطهرا ورفعة وصونا لها من عابث متمرد.

…. ولقد تعرض المسلمون في خلافة عمر رضي الله عنه لطاعون عمواس فلم يغلقوا المساجد بل فزعوا إليها متضرعين، فللمسجد رسالةٌ مهمةٌ في حياة المسلمين؛ خاصةً في وقت البلاء وانتشار والوباء {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، فالناس وقت المحن في أشد الحاجة إلى من يوجههم ويقوم على شؤونهم ويجيب على أسئلتهم ويشهد جنائزهم ويقوم عليها، حتى وإن تفشى الوباء -لا قدر الله- لا تغلق المساجد، فإغلاقُ المسجد ومنع القاصدين له للتعبُّد، وتعطيلُ عمارته الإيمانية، ومنع تعليمِ الناسِ أمورَ دينهم أمر لا يستقيم.
نعم، إذا انتشر الوباء وكان الخوف محققا، يُرخص للناس بالصلاة في البيوت، وتقام الجمع والجماعات ولو بالقائمين على المساجد وحدهم، فالعلماء والدعاة والأئمة والمؤذنون والقائمون على المساجد لا يتركون بيوت الله خالية من ذكره، ولئن اشترط الشافعية والحنابلة للجمعة أربعين رجلاً، فإن أبا حنيفة يجزئها بثلاثة سوى الإمام، ورجح ابن تيمية انعقادها بإمام واثنين معه، بل الشوكاني يجيزها برجل واحد مع الإمام. وهذا من تعظيم شعائر الله وحرماته؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

هذا ويحرم حضور المصاب بالوباء إلى المسجد في جماعة أو جمعة. ومن ظهرت عليه أي أعراض يشتبه أن تكون لــ (كورونا) أو غيره من الأمراض مثل (الكحة أو ارتفاع درجة الحرارة أو آلام في الحلق أو في الصدر)؛ يُرخص له أن يُصلي في بيته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ».

نسأل الله أن يحفظ أهلنا في إدلب من كل مكروه وسوء، وأن يحفظ علينا ديننا ومساجدنا، فالأوبئة تكون ثم تهون، وكم من أوبئة توالت ثم تولت، وحلَّت ثم اضمحلت، فانشروا الفأل والطمأنينة، وسلوا الله العافية.

المصدر: الرسمية

 

Exit mobile version