هداية قرآنية في ظلال النصر – مجلة بلاغ العدد ٦٨ – رجب ١٤٤٦ هـ⁩⁩

باحث

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على النبي المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد:

منَّ الله عزّ وجلّ على أهل الشام فقهر عدوهم وأظفرهم ومكّن لهم، وشاء الله أن يعزّ الأحرار ويذلّ الأشرار، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وفتحت البلاد وتحرر العباد لتنتقل الثورة السورية من مرحلة الضعف والوهن إلى مرحلة القوة والتمكين.

وفتنة المُلك والتمكين في وقت الرخاء أشدّ من فتنة الضعف والوهن في وقت البلاء، إذ هي محطّ نظر ربّ العالمين، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14]، وقال أيضاً على لسان موسى عليه السلام: {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].

فالثورة السورية اليوم تعيش مرحلةً يمكن أن يُقال عنها أخطر مرحلة من عمرها، فبها يقاس مدى نجاحها وتحقيق أهدافها، وإن أحد أهمّ أسباب النجاح والفلاح لهذه المرحلة، تولية الأكفاء ذوي العلم والخبرة في الأماكن المناسبة، وأن يتقدّم أصحاب الفضل والعقل والحكمة ويسخروا أنفسهم وعلمهم وخبرتهم في سبيل النهوض بالمجتمع والرقي به.

قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]

دلّت الآية الكريمة على جواز طلب ولاية أمرٍ من أمور الدين أو الدنيا رغبةً في العدل وإقامة الحقّ والإحسان، فهذا يوسف -عليه السّلام- طلب من حاكمٍ فاجرٍ أن يجعله على خزائن المال والطعام ليحفظها وينمّيها بما فيه صلاحُ العباد.

قال ابن القيّم: “فَإخْبارُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَمّا كانَ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ عَلى العَزِيزِ وعَلى الأُمَّةِ، وعَلى نَفْسِهِ: كانَ حَسَنًا. إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الفَخْرَ عَلَيْهِمْ، فَمَصْدَرُ الكَلِمَةِ والحامِلُ عَلَيْها يُحَسِّنُها ويُهَجِّنُها”.

وقال السعدي في تفسير قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] “أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه.

فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها”.

وعليه؛ فمن كان يعلم من نفسه أهليّةً وكفاءةً وإخلاصاً في بناء الصّرح الإسلامي وخدمة بلدنا الحبيب فليقدمْ على العمل ويطلبه، ولا يتراجع ويترك ثغراً من ثغور الإسلام يمكن أن ينفع فيه.

ومما ينبغي مراعاته في توسيد الأمور وتوزيع المناصب أن تتوفر القوة والأمانة في مَن وُكِل إليه أداء أمرٍ ما، فهما عمودا نجاح العمل، قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]، قال ابن جزي: “هذا الكلام حكمةٌ جامعةٌ بليغةٌ، رُوي أن أباها قال لها: من أين عرفت قوته وأمانته، قالت: أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر، وأما أمانته فإنه لم ينظر إليّ”.

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ أنَّهُ قالَ: “أشْكُو إلى اللَّهِ ضَعْفَ الأمِينِ وخِيانَةَ القَوِيِّ”، يُرِيدُ: أسْألُهُ أنْ يُؤَيِّدَنِي بِقَوِيٍّ أمِينٍ أسْتَعِينُ بِه”ِ.

فمن تسلّم زمام الأمور وتصريف الأعمال وتسيير أمور البلاد عليه أن يُقَرب أهل الفضل والعقل والحكمة والخبرة ويسند إليهم المهام التي تناسب كل واحد منهم، مراعياً في ذلك عنصرين رئيسيين (القوة – الأمانة)، فالحمل ثقيلٌ والأمانة عظيمةٌ، والله يمتحن ويختبر، فمن أحسن أداء الأمانة زاده الله حسناً وتوفيقاً في الأقوال والأفعال وقوةً في الملك والسلطان، ومن خان الأمانة فقد خسر خيري الدنيا والآخرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].

والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى