Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.

مسائل في الجهاد برمضان – الركن الدعوي- مجلة بلاغ العدد الخامس والثلاثون ⁨رمضان ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد ٣٥ - رمضان ١٤٤٣ هـ⁩⁩⁩⁩

الشيخ: أبو شعيب طلحة المسير

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد؛

فإن الجهاد والصيام عبادتان متشابهتان إلى حد كبير؛ فالصبر من أهم الأسس التي يقومان عليها، وتحمل المشقة في سبيل الله تعالى ركن أساس من أركان أدائهما، ولذا لا غرابة أن يشتركا في ورود الأمر بهما بصيغة واحدة “كُتب” في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، وقوله جل وعلا: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ)، فالصيام مجاهدة للنفس تعين على مجاهدة الأعداء.

 

* ولهذا التقارب بين العبادتين كانت هذه المسائل المتعلقة بالجهاد عند الصوم وفي رمضان:

1 – فضل الجهاد في رمضان:

شهر رمضان أفضل شهور السنة، والاجتهاد في العبادات فيه أمر فاضل مشروع، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ» رواه الترمذي وابن ماجه، فالنداء لمريد الخير أن أقبل فاجتهد في الطاعات فهذا موسم الفائزين يفيد فضل الاجتهاد في العبادات في شهر رمضان، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام وعبادة من أفضل وأشرف العبادات على الإطلاق، فدل ذلك على أن الجهاد في رمضان أفضل من الجهاد في غيره من الشهور.

لذا كان شهر رمضان شهر الجهاد في سبيل الله تعالى والفتوحات الكبرى في تاريخ الإسلام؛ كمعركة بدر الكبرى، وفتح مكة المكرمة، وفتح الأندلس، وفتح عمورية، ومعركة عين جالوت، وفتح بلغراد..، وغير ذلك من المعارك.

– وتبقى مسألة: هل يتحرى المجاهدون إيقاع المعارك في شهر رمضان؟

الذي يبدو أن المعارك تُجهَّز حسب الواقع فلا تؤخر كثيرا عن وقت جاهزيتها وحاجتها، وكذلك لا تُقدم كثيرا عن وقت جاهزيتها وحاجتها؛ فغزوة بدر وفتح مكة وقعا في رمضان ولكنهما ارتبطا بفعل قام به المشركون في ذلك الوقت هو مرور قافلة قريش عائدة من الشام فكانت معركة بدر، ونقضت قريش صلح الحديبية بإغارة حلفائهم بني بكر على خزاعة حلفاء المسلمين فكان فتح مكة.

فالجهاد ماض إلى قيام الساعة حسب الاستطاعة والظروف الأنسب؛ لا يقدم كثيرا ولا يؤخر كثيرا ليكون في رمضان، وكذلك لا يقدم كثيرا ولا يؤخر كثيرا ليكون قبل أو بعد رمضان.

2 – فضل الصوم في الجهاد:

للصوم في الجهاد فضل كبير، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» متفق عليه، قال ابن الجوزي في كشف المشكل: “إذا أطلق ذكر سبيل الله كان المشار به إلى الجهاد”، وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: “قوله: «فِي سَبِيلِ اللهِ» العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين؛ أعني عبادة الصوم والجهاد، ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه، والأول أقرب إلى العرف”.

فهذا الفضل العظيم لمن صام يوما في سبيل الله ولو كان صوم تطوع لا فريضة، مما يدل من باب أولى على فضل صوم المجاهد للفريضة.

فإن كان صوم النافلة يُضعف المجاهد عن جهاده ضعفا ظاهرا، فليقدم بذل الجهد في أمور الجهاد على صوم التطوع، قال ابن حجر في الفتح: “الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفا ولا سيما من اعتاد به فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل ليجمع بين الفضيلتين”، وقد كان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه لا يكثر التطوع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرا إلا يوم فطر أو أضحى»، قال ابن حجر في الفتح: “قوله: “لا يصوم” في رواية أبي الوليد.. “لا يكاد يصوم”.. فدل على أن النفي.. ليس على إطلاقه..، والمراد بيوم الأضحى ما تشرع فيه الأضحية فيدخل أيام التشريق..، وإنما ترك التطوع بالصوم لأجل الغزو خشية أن يضعفه عن القتال..، فلما توطأ الإسلام وعلم أنه صار في سعة أراد أن يأخذ حظه من الصوم إذ فاته الغزو”.

– والصوم في الجهاد فرصة لمضاعفة العمل أضعافا مضاعفة بعد الموت، فإن المرابط إن مات استمر له ثواب طاعته التي كان يعملها قبل موته، قال صلى الله عليه وسلم: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رواه مسلم، قال النووي في شرح مسلم: “هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد، وقد جاء صريحا في غير مسلم: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة»”.

– والصوم من أهم أسباب النصر على الأعداء، فالصيام الحقيقي جُنَّة ووقاية من الذنوب والمعاصي التي تؤخر النصر وتجلب الهزيمة، ووقاية من عذاب جهنم يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنَّةٌ» متفق عليه، وكذلك فإن الصوم من أهم أسباب التزود من التقوى التي هي أهم وسائل النصر على الأعداء، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

3 – متى يجوز للمجاهد الفطر في رمضان:

الأصل وجوب صوم شهر رمضان على المجاهد ويحرم عليه الإفطار فيه، والإفطار كبيرة من الكبائر، سواء كان مرابطا في الجبهات أو يعمل على خدمة الثغور؛ ويستثنى من ذلك:

1 – المجاهد المسافر أو المريض سفرا أو مرضا يبيح الفطر، فله أن يفطر؛ لأن السفر والمرض من مبيحات الفطر في رمضان، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ» متفق عليه.

– وقد يكون الفطر أولى في السفر إن كان الصوم يضعف المجاهد عن عمل ما يلزم المجاهدين في السفر، فعن أنس رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، قَالَ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ: ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» متفق عليه.

– وإذا غلب على الظن أن الجيش على وشك ملاقاة العدو وأن الصوم يضعف المجاهدين عن القتال؛ فللأمير أن يأمر المجاهدين بالفطر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا، وَكَانَتْ عَزْمَةً، فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ» رواه مسلم، فهم خرجوا في السفر مجاهدين ولكن اختلف الحكم من مرحلة لأخرى؛ فليست بداية السفر مثل الدنو من العدو، ولا الدنو من العدو مثل تصبيحه، فلكل مقام مقال.

2 – للضرورة وما في حكمها؛ كأن يكون في المعركة والصوم يضعفه عن القتال، فيجوز له الفطر صيانة لحرمات المسلمين ودفعا لعدوان الكافرين، فهو فطر مرتبط بالضرورة وما في حكمها الناشئة في الجهاد لا بمجرد كون المرء مجاهدا، فإن عمل المجاهد يختلف من يوم لآخر وليست كل أحواله ولا غالبها تقع فيها الضرورة؛ فملازمة أراضي الثغور جهاد، والإعداد جهاد، وملاقاة العدو جهاد..

قال الشوكاني في نيل الأوطار: “الصائم يضعف عن منازلة الأقران ولا سيما عند غليان مراجل الضراب والطعان، ولا يخفى ما في ذلك من الإهانة لجنود المحقين، وإدخال الوهن على عامة المجاهدين من المسلمين”.

وقال ابن القيم في بدائع الفوائد: “أجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد وفعله وأفتى به لما نازل العدو دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهين، وقال: ليس سفرا طويلا، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرا مباحا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام، وهل يشك فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر، وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم. فعلل ذلك للقوة على العدو لا للسفر والله أعلم. قلت: إذا جاز فطر الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما وفطر من يخلص الغريق ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقد غلط، بل هذا أمر من باب قياس الأولى ومن باب دلالة النص وإيمائه”.

* وعلى المجاهد إن أفطر للسفر أو المرض أو الضرورة أن يحاول الاستتار بطعامه عن أعين الصائمين، مراعاة للحال، ويجب عليه أن يقضي يوما مكانه بعد رمضان.

4 – أيهما أولى للمجاهد الاعتكاف أم الرباط والحراسة:

للاعتكاف صلة وثيقة بالجهاد؛ فالاعتكاف ملازمة المساجد، والرباط ملازمة الثغور، فكلا الأمرين عزوف عن علائق الدنيا وإقبال على المجاهدة بأنواعها، ولذلك سمي لزوم المسجد انتظارا للصلاة بعد الصلاة رباطا في قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» رواه مسلم وغيره، وهذا لفظ مالك في الموطأ.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مُنْتَظِرُ الصَّلَاةِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ كَفَارِسٍ اشْتَدَّ بِهِ فَرَسُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى كَشْحِهِ، تُصَلِّي عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ اللهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ أَوْ يَقُومُ، وَهُوَ فِي الرِّبَاطِ الْأَكْبَرِ» رواه أحمد.

– ولا شك أن الأولوية المقصودة هنا عند عدم التعارض؛ حيث لا يكون الرباط والحراسة والمعارك فرض عين على المرء في تلك الأيام؛ وإلا فلو كان ذلك فرضا عليه بعينه في تلك الأيام، فالفرض مقدم على نافلة الاعتكاف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا تَسْتَطِيعُونَهُ، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى» متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَوْقِفُ سَاعَةٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» رواه ابن حبان في صحيحه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا وروي مرفوعا، قال: «ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوف، لعله أن لا يرجع إلى أهله» رواه الحاكم.

– فإن كان الرباط والحراسة في تلك الأيام بعينها نافلة في حق مرء بعينه، فإن اعتكاف العشر الأخيرة من رمضان وتحري ليلة القدر فيها عبادة مؤقتة لا تتكرر إلا مرة كل سنة، فالاعتكاف له حظه من العناية؛ فالعبادات تتنوع بما فيه إصلاح لجوانب النفس المتعددة فينبغي للحريص أن يضرب بسهم في كل باب من أبواب الخير، قال ابن القيم في مدارج السالكين: “أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته؛ فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض، كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب..، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن..، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك..، والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم..، فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق..، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها، فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم..”.

وقال المناوي في فيض القدير: “قد يعرض للمفضول ما يكسبه على غيره فضلًا؛ فإن العبادة تفضل تارة باعتبار زمانها، وأخرى بحسب مكانها، وطورا بحسب حال المتصف، وآونة بمقتضى سببها، ومرة تترجح بعموم الانتفاع، وأخرى بوقوعها في بعض الأزمنة أو البقاع..، وحاصله أن العبادة قد تكون فاضلة ومفضولة باعتبارين كما يصير فرض الكفاية في بعض الأحوال فرض عين”.

– وهذا الكلام وإن كان عاما فإنه قد يعرض له في الواقع ما يدفع لتقديم شيء على آخر، كأن يكون الرباط في هذه الأيام فرصة لا تتكرر عادة لمن ينشغل بقية العام بمسؤوليات تخص الجهاد غير الرباط فيكون رباطه في هذه الأيام فرصة لمعاينة ما تحتاجه الثغور وما يفيدها، أو كأن يكون الرباط المتاح لشخص في تلك الأيام مع أفراد رقيق التزامهم تؤثر مخالطتهم على التزام الشخص وتدينه؛ فتضيع الأوقات الفاضلة بسبب رفقة السوء تلك، فيكون اعتكافه أظهر رجحانا من هذا الرباط.

– أما أهل الأحوال والمقامات العلية فهم أدرى بقلوبهم وموازناتهم، ولهم في ذلك اجتهاد عظيم يروى للاستئناس، مثل ما رواه الربيع بن سليمان، قال: “خرجت مع الشافعي من الفسطاط إلى الإسكندرية مرابطا، وكان يصلي الصلوات الخمس في المسجد الجامع، ثم يسير إلى المحرس فيستقبل البحر بوجهه جالسا يقرأ القرآن في الليل والنهار، حتى أحصيت عليه ستين ختمة في شهر رمضان” [مناقب الشافعي للبيهقي]..

* أسأل الله جل وعلا أن ينصر المجاهدين في هذا الشهر الكريم نصرا عزيزا مؤزرا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين.

للمزيد من مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا

لتحميل نسختك من مجلة بلاغ اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى