متى تشرب كلماتي من دمائي – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٥٤ – ربيع الثاني ١٤٤٥ هـ
بلاغ مجلة شهرية تصدر من قلب إدلب العز شمال سوريا الحبيبة في أرض الشام المباركة قلب العالم الإسلامي
أبو دجانة الخرساني
همام خليل أبو ملال البلوي
لم أعد استطع الكتابة، ولدي رغبة بأن أُحال إلى التقاعد المبكر لقد أفلستُ … ذبلتُ … تعبت …. مللت …
أحاول أن كتب مقالاً عن ذلك الموضوع أو ذاك، فأكتب سطراً أو سطرين ثم تتحول كلماتي إلى “كلمات متقاطعة” … حتى كأنني أعاني من عمش فكري وتشوش عاطفي.
لقد أصبحت سطوري تثقل كاهلي، و أصبحت كلماتي تحاصرني كلما أغمضت عيني، هذه المشاعر التي أحملها .. ما عدت قادرا على حملها.
أشعر بأن كلماتي أصبحت باهتة و منتهية الصَّلاحية، تحتضر بين يديّ كابتها، و أشعر أني أصبحت كهلاً طاعنا في السن، يمر عليه الناس فيتهامسوا: عجوزٌ ماتت أجياله، فكل يوم أقضيه قاعداً يسرق بعضا من عمري و صحتي وعزيمتي، فتتسع الفجوة بين ما أحلم به وبين ما أنا عليه حقاً، وتتحول كل قصائد المديح إلى رثاء، وكل نار تحرق قلبي حبا للجهاد إلى رماد.
يا من تكتب عن الجهاد وتحرّض عليه، احذر من أن أتقع في وَرطتي، فأخوف ما أخافه هو أن ألقى رجلاً مضى إلى ربه شهيداً بسبب كلماتي، ثم أنا أموت على فراشي!
هذا كابوس يؤرقني، ويتلف أعْصابي، أخاف من أن يشفق عليّ يوم القيامة وأنا أقف أمام جبال الذنوب، أسأل عنها واحدة واحدة، ويطول الحساب ويتصبب العرق، بينما هم يتقلبون بين غرف الجنان في نعيم مقيم.
يسأل أحدهم الآخر: أَرأيت من كان اسمه أبودجانة الخراساني، كان يحرض على الجهاد …
فيقول الآخر: ولكنه مات على سريره، قاعداً ذليلاً، وليته انتفع بكلماته، لقد كان كالفتيلة تحرق نفسها لتضيئ لغيرها!
كم أخاف على صحتي وأعتني بنفسي، فأنا أخاف أن أهلك على فراشي كما تموت البعير، ووالله لا أطيق ذلك.
وأخاف الفضيحة في عرصات يوم القيامة إن لم أقتل بسلاح عدوي.
أخاف أن أوصم بالكاذب، وأن تكون كلماتي دليل إدانتي.
مع كل موت أسمع عنه أموت، ومع كل مرض أخبر عنه أمرض، ومع كل سنة تمضي من عمري أشيخ عقدا من الزمن، وهذه سنة الله في القاعدين ….
هذه حالة أعرفها، وهي ما يسمى بالاحتضار الوجداني، فكلماتي ستموت إن لم اسعفها بدمي، ومَشاعري ستنتطفئ إن لم ألهبها بمَوتي، مقالاتي ستشهد ضدي إن لم أقدم لها الدليل على براءتي من النفاق، وليس غير الدم يبرد يقينها.
لو قدر الله لك أن تدخل المدينة التي تسكن فيها كلماتي وأَحَاسيسي، لوجدت صورتي معلقة على جدرانها وأعمدتها، كتبوا تحتها: (مطلوب “ميتاً” أو “ميت” )
يا مجاهدا في سبيل الله، لو قتلت في سبيل الله ألف مرة ما أديت شكر الله على نعمة النفير لجبهات القتال، فقل الحمدلله الذي عافانا ممى ابتلى به غيرنا، ولا تمن على الله بعملك، بل الله يمن عليك أن هداك إلى ما أنت فيه، لا تقل عملي الصالح قد هيأ لي النفير، لا تقل صدقي قهر الموانع في طريقي، بل قل لقد رزقني الله بهذه النعمة دون أن أكون أهلاً لها، كما هو الأمر في سائر نعمه، ولا تشمت بي إن قرأت ما أصابني فيبتليك الله بفراشي ويرزقني بندقيتك.
آه آه ..
لقد قتل أبو الطيب المتنبي بيت شعر قاله، فكيف لا تقتلني كل مَقالاتي؟
قال له ابنه -بعد أن كاد أن ينهزم- ألست القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
قلبٌ إلى شرع الهدى توَّاقُ … فكَر على أعدائه وقاتل حتى قتل، لا في سبيل الله، ولكن حتى لا يقول الناس جبان، فكيف لا تقتلني كتاباتي في سبيل الله؟
فإما أنا أو هي!
فالدنيا لا تسع كلانا، لابد لأحدنا أن يموت … ليحيى الآخر، وأتمنى أن أكون أنا مَن يموت.
والله لو لم يكن في الشهادة في سبل الله فوزاً إلا غفران الذنب و الإعفاء من السؤال، لحق لي أن أبذل في طلبها الغالي والأغلى، فكيف بالفردوس الأعلى؟
فكيف بصحبة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟
فيكف بالأمن من الفزع الأكبر؟
فكيف بالشفاعة لسبعين من الأهل؟
يا إخوان اعذروني على بكائي فلقد بكى عمير بن أبي وقاص عندما رده رسول الله صلى الله عليه لصغر سنه، فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لبكائه وأذن له، فكان أخوه سعد رضي الله عنه يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقاتل حتى استشهد في بدر رضي الله عنه وعمره ستة عشر سنة.
اعذروني على بكائي، و أين أنا من السبعة البكائين الذين جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم للجهاد في سبيل الله فقال لهم عليه الصلاة والسلام: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وهم يبكون حتى نزل قوله تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)
تأملت في عائلتي الكبيرة، فعددت أكثر من مائة أو أكثر من الأحياء و الأموات فلم أجد منهم شهيدا أو أبا أو أما أو أخا لشهيد.
إنني لا أعلم شهيدا أنا من “السبعين” المشفع لهم به، فكيف لا أفزع؟ كيف لا أهلع؟ كيف لقلبي أن لا ينخلع؟ وقد أغلق علي باب شفاعة عظيم؟
اللهم إني أسألك أن لا تتوفاني إلا في سبيلك شهيدا مقبولا.
اللهم إني أسألك أن أثخن في عدوك أيما إثخان، ثم أقتل تحت أنقاض منزل هدمه اليهود أوالصليبيين، فلا يستخرج المنقذين جثتي، لتتحول إلى سماد إنساني يعطي ثمراً جنيا يتغذى عليه طفل مسلم ليكون مجاهدا حينما يكبر.
هذه الشهادة كم تاه في حبها الأحرار، تشغل عليهم كل كيانهم حتى أنهم ليتفكرون في لقائها قبيل منامهم … بعد استيقاظهم، وحتى في أحلامهم.
جاء بعض من صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ليزوروا البراء بن مالك (رضي الله عنه) وهو مريض على فراشه، فقرأ القلق في وجوههم، فقال رضي الله عنه (لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي، لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة) .
فلا تلوموني أنني أرهب الموت في غير سبيل الله، فإن كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرهبون ذلك ويكرهون الموت على الفراش، فكيف للعبد الفقير العاصي؟
عندما ألقيت نظرة هذه الصورة التي وضعها الأخ أحد الأفاضل:
عندها شعرت نفسي كأسير بين يدي عشرات الجلادين، وقد كمموا فمي وربطوا يدي وقدمي، ثم قالوا لي انظر كيف يقتل اليهود أختك وأنت تنظر!
فنفسي “جلاد” يجثم على صدري ويوثق قيدي …
وذنوبي “جلاد” آخر …
وطول الأمل “جلاد” …
والطواغيت العرب “جلاد” …
والحواجز التي تفصلنا عن بني صهيون “جلاد” …
وحرس الحدود …. والعملاء بيننا …. وعلماء السوء …. كلهم يجثمون على صدري، أعداء داخلي وأعداء خارجي، يحولون بيني وبين اليهود والصليبيين، ولكي أصل إلى أعدائي اليهود والصليبيين، لابد أن أنزع نفسي من تحت أقدام هؤلاء الجلادين، لتكون كوثبة الأسد الهصور الذي لا يقبل الهزيمة.
إن كل من رأى المناظر المؤلمة ثم لم تحدثه نفسه بالنفير فليقم صلاة الجنازة على رجولته .. لا … بل على ذكورته، فالرجولة فقدناها منذ أن رضينا بالقعود أول مرة.
قتلن ولسن حالهن يقول:
أنا أيها الأحباب مسلمةٌ لها
أحلامَها الأوباش والفسّاقُ … أنا أيها الأحباب مسلمةً طوى
“أميِّ” وفي نظراته إشفاقُ … أخذوا صغيري وهو يرفع صوتَه
مخنوقةٍ، ويُقهقه الآفَّاقَ … ولدي، وتبلغني بقايا صرخةٍ
قسراً، وتُظلم حولي الآفاقُ … ويجرُّني وغدٌ إلى سردابه
طُهري، وتُغمض جفنَها الأخلاقُ … ويئنُّ في صدري العَفَافُ ويشتكي
فدمي هنا يا مسلمون يُراقُ … أنا لا أُريد طعامكم وشرابكم
أمافيكم أبيٌّ قَلْبُه خفَّاقُ … عرضي يُدنَّس أين شيمتكم
تقوم مقام النصر إذ فاته النصر … يا إخوان كيف أفر يوم القيامة من سؤالهن لي: ماذا فعلت لنا يا أخانا المسلم ولقد رأيتنا صرعى على يد أرجس الخلق!
لقنوني حجتي بالله عليكم، ماذا أقول لهن؟ يا علي يا أحمد يا حسن، يا أبا عمر، ماذا ستقولون لهن يوم القيامة حين يسألنكم؟
هل أقول لهن عذرا أخيتي، فلقد كنت أتناول طعام الغداء مع زوجتي وأطفالي في بيتي الآمن؟
هل أقول لهن: خفت الحكام الطغاة في الله ولم أخف الله فيهم؟
هل أقول لهن: جبنت، وطمعت بيوم أو يومين زيادة في دنيا الفناء؟
والله لو لم يكن يوم القيامة من ورطة إلا ورطة هذا السؤال، لكان لزاما علينا النفير في سبيل الله من أقرب مطار أو بوابة حدودية.
لقد كان صوت الشيخ أبو مصعب الزرقاوي يثير فينا المشاعر، ويحيي الضمائر، فماذا عسانا فعلنا؟
رحل صاحب الصوت عنا ومازلنا نقول لكل داعية نفير جاء من بعده: رفقا بالقوارير، رفقا بالقوارير!
ما تمنيت من قبل أن أكون في غزة، ولكن اليوم أتمنى هذا (وأنا رجل قتلته أمانيه أو يرحم الله بحاله) … لأكون قنبلة هاون يضعها الموحدين في مدفعهم ثم يكبرون علي، أو أكون مفخخة تعمل كسيارة تكسي توصل أكبر عدد من اليهود إلى جهنم وبئس المصير، أو أكون متعبدا يعتكف بحضرة بندقيته، ودع أهله وقبل يد أمه، أما أطفاله فغادر دون أن يعانقهم خوفا من أن يضعف، ينتظر اقتراب اليهود حتى ينتقم لدينه أو يموت في سبيل الله، لا يحمل بجانبه إلا تمرات لا تملؤ قبضة يد أو قبضتين، فهو ينتظر أجله مظانة.
وي كأني أشتم عبق الجنة تهب رياحها من صوب غزة هاشم، وكأن السماء قد فتحت أبوابها على مصراعيها استقبالا لأهل الله وخاصته في أرض الرباط، ففي أرض المسراء و المعراج، هناك أرواح مقبولة تسري إلى ربها وأخرى تعرج.
فشمروا عن أيديكم يا رجال الإسلام، فلا تأتين أمة الإسلام من قبلكم، فأرض الرباط تبحث عن أمثال أبي مصعب الزرقوي و أبي الليث الليبي وعمر حديد وعماد عقل، ولتكن أمنيتكم هي الشهادة في سبيل الله عز وجل:
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
من الضرب واعتلت عليه القنا السمر … وما مات حتى مات مضرب سيفه
وقال لها من تحت أخمصك الحشر … فأثبت في مستنقع الموت رجله
فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجر … غدا غدوة والحمد نسج رداءه