كيف نربي أنفسنا من خلال رمضان؟ || الركن الدعوي ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون
الشيخ: همام أبو عبد الله
كلما دخل شهر رمضان المبارك سرحت خواطر الصائمين ونفوس الطامحين تفكر في اقتناص الفرص واستغلال مواسم الخير والارتقاء بالنفس في مدارج الخيرات، والسؤال المتكرر كل عام: كيف نربي أنفسنا من خلال رمضان؟ وكيف يمكن أن نجعل رمضان نقطة تغير وقاعدة انطلاق تُقوِّم السلوك نحو الأفضل في علاقة المرء مع ربه جل وعلا ومع الناس ومع نفسه التي بين جنبيه؟ ولعل مما يفيد في ذلك ما يلي:
أولا- رمضان مدرسة تربوية:
المتأمل في آيات الصوم في سورة البقرة يجد أن الله جل وعلا رغب عباده في الصوم بذكر مقامات يصلها الصائم، وهي التقوى والشكر والرشد، قال جل وعلا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ثم جاء قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ثم قوله سبحانه: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، ثم كان ختام تلك الآيات بتأكيد وتكرار ذكر غاية التقوى قال سبحانه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
فما تضمنته خواتيم تلك الآيات من الصيام وإكمال العدة وتكبير الله جل وعلا والفرح بالهداية والشكر على النعمة والاستجابة لأمر الله والإيمان به، يؤكد المعنى التربوي المتكامل الذي يعيشه المسلم في رمضان ليصل لمقامات التقوى والشكر والرشد، وهي مقامات من وصل لها وحافظ عليها صلحت دنياه وأخراه وأصبح من الفائزين.
ثانيا- معرفة أهمية التعاطي مع التربية الرمضانية:
الإنسان ضعيف كما قال جل وعلا: (وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً) لا يقوى على مواجهة شياطين الجن والإنس ولا على قهر نفسه التي بين جنبيه وهواه الذي يتأرجح مع دقات قلبه إلا أن يعينه الله جل وعلا على ذلك وييسر له أسباب دفع الشرور (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى منكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدَاً)، ومن أهم أسباب دفع الشرور تربية النفس وكبح جماح هواها ومحاسبتها على ما كسبت يداها فهذا هو ديدن العبد الصالح الذي استجاب لأمر الله جل وعلا: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) فأصبح حاله: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى).
فالنفس في حاجة لمزيد تربية لتتزود من العبادة بما يعينها على الاصطبار للعبادة، فتتزود بعبادة رمضان بما يعين على العبادة بعد رمضان (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، قال السعدي: “(وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أي: اصبر نفسك عليها وجاهدها، وقم عليها أتم القيام، وأكملها بحسب قدرتك”.
وهذا من التيسير لليسرى بعد فعل الخير (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، قال السعدي: “أي: نسهل عليه أمره، ونجعله ميسرا له كل خير، ميسرًا له ترك كل شر؛ لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك”.
– إن التربية الرمضانية تربية عملية تنتج سلوكا، وليست مجرد معرفة عقلية، فلا يكفي أن يعرف المرء فضل عبادات رمضان لينال أثرها وبركاتها، ولا يكفي كذلك القيام بتلك العبادات دون روح وقلب حاضر، بل لا بد من علم وعمل واستحضار للمعاني الإيمانية والنفسية والسلوكية المتعلقة بتلك العبادات، والمجاهدة في الترقي بها والاجتهاد في الثبات على طريقها، عسى أن يدخل المرء في عداد من قال فيهم الله جل وعلا: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
ثم تأتي زكاة الفطر في نهاية رمضان «طهرة للصائم من اللغو والرفث» مشعرة بحقيقة تقصيرنا وأننا في حاجة إلى الاستمرار في مجاهدة النفس وتربيتها طالما بقيت لنا في الحياة أنفاس وفي الروح بقية، وويل لمن اغتر بعمله واستكثر طاعته، (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
ثالثا- ملاحظة الطرق الرمضانية في التربية:
على المرء الحريص على استكمال فضائل النفس واجتناب رذائلها أن يتبصر بالطرق التربوية المتضمنة في رمضان، وإذا كانت التقوى من أهم غايات الصوم ومقاصده فإنها تتحقق من مجموع وسائل تربوية يصل لها من أحسن الاستفادة من مدرسة رمضان، ومنها:
1- مراقبة الله تعالى: فالصوم من أهم العبادات التي تقوي جانب المراقبة الدائمة والخشية في السر والعلن، ولذا جاء في الحديث القدسي، قال الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»، ولعل الصوم خاصة في شهر رمضان هو من أكثر العبادات التي تستغرق وقت الإنسان وتشغل نفسه طول النهار طيلة شهر كامل هو شهر رمضان، ثم تكون لتلك العبادة بالنهار متعلقات بالليل من قيام ليل وقراءة قرآن وسحور، وهي عبادة تمتد من حبس النفس عن الطعام والشراب والشهوة إلى حبسها عن منكر القول وسيئ العمل كما قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
2- تعظيم شعائر الله: من أهم دروس المدرسة الرمضانية تربية النفس على تعظيم شعائر الله جل وعلا وحرماته، فشعار العبد الصالح في رمضان: «إني صائم إني صائم»، فتعظيم الصيام وتعظيم شهر رمضان المبارك من أهم مظاهر التقوى التي هي ثمرة الصيام، كما قال جل وعلا: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وعندما ينمو شعور تعظيم شعائر الله في رمضان يمتد لتعظيم شعائر الله في سائر السنة، فشعائر الإسلام موجودة كذلك في الصلاة والزكاة والحج والجهاد والمعاملات والأسرة والمجتمع وسائر شؤون الحياة.
3- ملازمة القرآن الكريم: رمضان شهر القرآن، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن في رمضان كل ليلة مع جبريل عليه السلام، وقيام الليل في رمضان فيه قراءة للقرآن الكريم، وتلك الملازمة للقرآن في رمضان قراءة ومدارسة وعملا تجعل النفس الصالحة متعلقة بالقرآن تسير بهديه في سائر أيامها، خاصة وأن المسلم مطالب بالقراءة من القرآن في كل صلاة يصليها طول حياته.
4- إلزام النفس بالصبر والمصابرة: فرمضان اسمه شهر الصبر، ومظاهر الصبر في رمضان كثيرة؛ صبر عن الطعام والشراب والشهوة، وصبر في القيام والقراءة والتضرع، وصبر في تحمل الأذى، وصبر على الإنفاق..، ولذا (يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وهذا الصبر الرمضاني يربي النفس على الصبر العام؛ لأن أثر الصبر ممتد كما قال صلى الله عليه وسلم: «الصبر ضياء»، والضياء ينير طريق المرء وكذا الصبر ينير طريقه وأيامه، وهذا الصابر الذي يتصبر حتى يبلغ بغيته يأتيه المدد الرباني فيصبره الله ويعطيه أوسع عطاياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أُعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر».
وتعويد النفس على الصبر يكسر جنوحها، ويخبت نار شهواتها، ويضعف دواعي الشر، فتحسن عبادته عامة ويحسن خلقه مع الناس ويتخلص من سيئ الأخلاق، ولذا جاء في الحديث: «الصيام جُنَّة»، قال النووي في شرح مسلم: “ومعناه سترة ومانع من الرفث والآثام ومانع أيضا من النار”، وقال صلى الله عليه وسلم: «عليك بالصوم فإنه لا مثل له»، ووصى النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم لمن لم يستطع الزواج وأخبر أن الصوم يعينه على قطع المنكرات، فقال صلى الله عليه وسلم: «من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
5- التعود على الخير: ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه: «الخير عادة» قال الصنعاني في التنوير: “أي تعود النفس إليه وتحرص عليه، أو المراد أنه بالتعود فمن لم يكن في طباعه خير تعوده حتى تمرن عليه”، وقال المناوي في فيض القدير: “بالمداومة على العبادة ومخالفة الشهوات تحسن صورة الباطن”.
فمن صام رمضان رغبة في التعود على فعل الخير واكتساب صفة لازمة يختلف أمره عمن صام رمضان دون تلك الرغبة؛ فثلاثون يوما من الصيام والقيام وقراءة القرآن وحسن الخلق ومواساة الناس كافية في تعويد النفس على الخير ليصبح الخير لها عادة، ولذا كان الالتزام بتكرار العبادة في رمضان مُهما في تثبيت عوائد الخير، فمن صام كل أيام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام كل ليالي رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان كل ليلة..
8- ترغيب النفس بجزيل العطايا: من الأساليب التربوية التي تعين المرء على الاستفادة من مدرسة رمضان ملاحظة جزيل العطايا المترتبة على فعل الطاعة؛ لذا كانت المبشرات للصائم دافعا وحافزا يدفعه للاجتهاد في العبادة، فإذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنان ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل، ولله عتقاء في كل ليلة من رمضان، وفي الجنة باب للصائمين يقال له الريان، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، وعمرة في رمضان تعدل حجة، ومن فطر صائما كان له مثل أجره، وفي السحور بركة..، ومن تأمل في الشريعة وجد أن الفضائل عظيمة لا تقتصر على رمضان فللصلاة فضائلها وللزكاة فضائلها وللجهاد فضائله ولحسن الخلق فضائله..، وبتلك التربية الرمضانية تتشوق النفس دوما لتحصيل الفضائل في رمضان وبعد رمضان.
9- أخذ النفس بالعقوبة عند الزلل: فثواب الصوم عظيم جدا، كما في الحديث القدسي «إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» ولكن هذا الثواب العظيم يضيع على المرء بقول الزور والعمل به، ولا يجني المرء من صيامه سوى الجوع والعطش، ويقال فيه: «بعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له»، ولذا كان من عقوبة النفس عند الزلل أن يعاقَب بعض الناس بكفارة مغلظة عن إفطارهم يوما في رمضان وهي تحرير رقبة فمن لم يستطع فصوم شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فيكون عقاب النفس عند الزلل بنقيض ما أدى للزلل، قال الغزالي في الإحياء ناصحا: “إذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر، وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته..، كذا كانت عقوبة أولي الحزم لأنفسهم، والعجب أنك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر وتخاف أنك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار وبغوا عليك، ثم تهمل نفسك وهي أعظم عدو لك وأشد طغيانا عليك وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك، فإن غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا، ولو عقلت لعلمت أن العيش عيش الآخرة، وأن فيه النعيم المقيم الذى لا آخر له، ونفسك هي التي تنغص عليك عيش الأخرى فهي بالمعاقبة أولى من غيرها”.
10- اتخاذ مواسم لمراجعة مسيرة النفس ومحاسبتها وتقويمها: شهر رمضان هو أفضل شهور السنة شهر مراجعة ومحاسبة وتقويم، وهي محاسبة سنوية تتأمل فيها النفس مسيرة سنة كاملة، وتلك المحاسبة السنوية تدفع النفس لتعداد أزمنة المحاسبة لتكون كذلك شهرية وأسبوعية ويومية، استئناسا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر»، وهذه المحاسبة تدخل في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ)، قال الترمذي في سننه: “يروى عن عمر بن الخطاب، قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا. ويروى عن ميمون بن مهران، قال: لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه”.
رابعا- جعل التربية الرمضانية مرجعا لمسيرة الحياة:
إذا نجح الطالب في دراسته وتخرج من معهده فإن أول ما يشغله هو العمل بشهادته وتوظيف دراسته عمليا في مسيرة البناء، وتظل الدروس التي تلقاها منطلقا يعمل به ومرجعا يستذكره كلما واجهته تحديات العمل، والعابد الموفق الذي تخرج من مدرسة رمضان التربوية يشغله العمل بما حصله في شهر رمضان المبارك، ويجعل رمضان منطلقا ومرجعا لمسيرته العملية بعد رمضان، خاصة في جليل العبادات كالصلاة والصيام وقراءة القرآن وحسن الخلق والصبر..، وهذا حال الموفقين الذين حذروا ما نهاهم الله عنه من انقلاب الحال في قوله جل وعلا: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)، وقوله سبحانه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا).
– أسأل الله أن يوفقني وإياكم لاغتنام الأوقات الفضيلة، والاستقامة على الصراط المستقيم، والثبات على الحق، والحمد لله رب العالمين.