{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} – مجلة بلاغ العدد ٦٠ – شوال ١٤٤٥ هـ • April 20 at 07:22 م
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد الله العالم بالبواطن، الذي ييسر الخير لعباده في كل الأحوالِ والمواطن، من عصاه مهما وَجَدَ شقيٌّ خائِف، ومن أطاعه مهما فقد سعيدٌ أمن، أما بعد:
إن الأمن ثمرةُ الإيمان، وإنهما للنفسِ لا للجسد، فالضالُّ المتلجلجُ في اضطرابٍ وخوفٍ وإن سلم جسده، والمهتدي الثابت في سكينةٍ وأمنٍ وإن قاسى البلاء على أنواعه، من تهديد وملاحقة وقتل وسجن ونفي وغيره.
وحلاوة الإيمان يجدها من يجاهد في سبيل الله دعوةً وقتالاً، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يخاف في الله لومة لائم، يصبر على الابتلاء في هذا السبيل، فأعداء الصادعين بالحق الناصحين للخلق كثر، لا يحصرهم بندٌ، ولا يحصيهم عدٌّ، وهم بين مصرِّحٍ بالعداوةِ مجاهر، مستخفٍ بها ماكر.
إنه طريق الصالحين المعبد بالابتلاءات الدالة على صوابه، تعرض للسائر فيه من بابه إلى محرابه، من لم يجدها اتهم نفسه وخشي عليها، ومن وجدها غير مُتَشوِّفٍ ولا مُتَعَرِّضٍ لها استدل بها على المعية والرعاية الإلهية، فإنها سنةُ الله التي يصقُلُ بها معادنَ الصالحين، الأنبياء والصديقين ثم الأمثل فالأمثل.
فإذا خُيِّرَ الصالحون المصلحون بين السلامةِ المادية مع الفتنة، والابتلاء بالمصاعب والمصائب مع السلامة المعنوية والتثبيت على الطريق، اختاروا الابتلاء الذي فيه سلامة الدنيا والآخرة، وإلا فما معنى الثبات على دعوة الحق مع ما تعرضوا له من تهديدات نافذة!، وما معنى تقحم المخاطر نصرة للدين وأهله، فإن كان معنى الأفعال واضحاً، فإن التصريح بالاختيار أوضح، ولقد صرح يوسف عليه السلام بما خلَّد القرآن ذكره.
عندما رأى إصرار النساءِ على الكيد به والنيل منه، اختار يوسفُ عليه السلام السجنَ حتى يحجز بين وبينهن، قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، وعندما أرسل الملك إليه من يخرجه من السجن بعد سنين، لم يخرج الا بعد بيان الأمر، والانتهاء من هذه القضية الهامة الفارقة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50]
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما صدع بالحق حسده كثيرٌ من علماء زمانه فوشوه على الخليفة ورموه بالابتداع، فسجن أكثر من مرة وأوقف عن التدريس، ولكن هذه لم تفت في عَضُدِه أو تبعده عن الدعوة، وفي آخر مرةٍ وشوه إلى الخليفة فسجن في سجن القلعة في سجنٍ انفرادي ومنع من التأليف وسحبت منه الأقلام والمحابر، فقال رحمه الله: “ما يفعل أعدائي بي، أنا حديقتي وبستاني في صدري، أنَّى ذهبت فهي معي؛ فإن قتلوني فقتلي شهادة، وإن شردوني فتشريدي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة”. (انظر البداية والنهاية وفاة شيخ الإسلام ج7 ص141).
وإن كان هذا اختيار وسلوك أبناء هذا السبيل من السابقين الأولين، فإنه اختيار وسلوك من تبعهم بإحسان حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن الأمثلة الماثلة اليوم، ما كان من شأن الشيخ أبي شعيب المصري والأستاذ عصام الخطيب، اللذين اختطفهما أتباع الجولاني المجرم من مدينة اعزاز بعد أن صدعا بالحق وأعلناه مدوياً سمع صداه القريب والبعيد، وإنهما مهددان بالقتل في الأقبية الأمنية التي قتل فيها غيرهما ممن سجنهم الجولاني، والتي عذبا فيها عذاباً نكراً.
فبعد أن نهض المسلمون في إدلب، بحراكهم الثوري ضد الطغيان لاستعادة قرار الثورة وتصحيح مسارها، وللمطالبة بالمعتقلين المظلومين في سجون الجولاني، عرض الظالم الطاغي على الشيخ والأستاذ الخروج من السجن بشروط عليها كفلاء، أهمها أن يسكتا عن الحق ولا يتكلما في الشأن العام، وأن لا يحرضا الناس ضده، فكان الرد بشروطهما وليس بالموافقة والإذعان.
فالشيخ أبو شعيب اشترط أن يكون خروجه وما يليه قضائياً كي لا تستمر حالة التسلط الأمني والاعتقال التعسفي بلا تهمة ولا بينةٍ ولا إجراءاتٍ معروفةٍ مسؤولة، والاستاذ عصام الخطيب رفض الخروج والسكوت عن الظالم الغاشم، وقالا بلسان الحال والمقال: {.. رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ….} [يوسف:33]، فالقضية ليست قضية شخص أو اثنين أو جماعة من الناس، بل قضية أمةٍ ودين، الثابت فيها مستعملٌ مكرم، ينال شرف الدنيا والآخرة ونعيمهما، فمهما طال أمده السجن وعذاباته، سيأتي اليوم الذي يقال فيه: “ذهب الأسر وبقي الأجر”، فتوزع الجوائز ولا يحرم إلا من حُرم التوفيق فحرم نفسه.
ثم إن في سجن الطغاة المجرمين لأهل الصدق والإصلاح إبانةٌ لسبيلهم، {وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، يراها حتى أعوان الظلمة وأتباعهم، ولا يستمرون فيما هم عليه من تأييد للباطل وانتفاعاً به الا جحوداً وعلواً وفساداً، وإنه زيادةٌ في رصيد الصادقين من قبولٍ في الدنيا وأجرٍ ورفعة في الآخرة، {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
نسأل الله أن يثبت أهل الصدق والنصح والإصلاح، وأن يفرج عن أسرى المسلمين والمعتقلين المظلومين، وأن يمكن لخيرة الأجناد فيكون بهم إصلاح البلاد والعباد، وزوال الطغيان والفساد، اللهم آمين.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٠ شوال ١٤٤٥ ه