قراءة في حضارة الشيطان ومعركة الفطرة – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد الثاني والثلاثون

العدد الثاني والثلاثون جمادى الآخرة ١٤٤٣ هجرية – كانون الثاني ٢٠٢٢ ميلادي

الدكتور: أبو عبد الله الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:

فالبشرية في واقعنا المعاصر ترزح تحت سيطرة ونفوذ حضارة الشيطان العلمانية بفلسفتها الليبرالية، وقيمها المادية المحاربة للدين والمضادة للفطرة السوية، يقول د. عبد الوهاب المسيري: «إنَّ العلمانيَّة الشاملة ليست فصْلاً للدين عن الدَّولة؛ بل فصْل لكل القيم عن مجمل حياة الإنسان، ونزع للقداسة عنْه، بحيث يتحوَّل العالم إلى مادَّة استِعمالية يوظِّفها القويُّ لحسابه، وهو ما يؤدِّي إلى الحداثة الداروينيَّة، وتَحويل العالم إلى حلبة صراع، فهي علمانيَّة تنكر إنسانيَّة الإنسان» ولذلك لا بد من نشر الوعي وتعميمه بحقيقة المعركة القائمة على الإسلام والفطرة البشرية، وتبيان أطرافها وجذورها ومآلاتها، وفي سياق هذا يأتي مقالنا الحالي، فأقول وبالله التوفيق:

أولا – معنى الفطرة:

يقول تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) يقول ابن كثير رحمه الله مفسرًا: «فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره»، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم ورواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصّرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)، وكما صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم، ورواه عياض بن حمار رضي الله عنه أنه قال فيما يرويه عن ربه تعالى: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)، فالفطرة كما بينت النصوص السابقة هي الحنيفية، وَالْحَنِيفُ: هو الموحد الْمَائِل عن الْأَديَانِ كُلِّهَا إِلَى الدِّينِ المُستَقيم، وهذا يعم الجميع (حنفاء كُلَّهُمْ)، ثم يؤثر عامل الأسرة والبيئة وتقليد الآباء كما في الحديث الأول، وعامل اجتيال الشياطين كما وضحه الحديث الثاني، والعامل الأول فرع عن الثاني، كما بينه أثرا ابن عباس رضي الله عنهما الأول ما رواه الحاكم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على الإسلام”، والثاني ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب عبادة الأصنام في قوم نوح عليه السلام، قال: «هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت».

ثانيا – حضارة الشيطان المعاصرة:

يشهد الطور الحالي للعلمانية، الذي بدأ في منتصف القرن الميلادي المنصرم والذي اصطلح على تسميته “بطور ما بعد الحداثة”، انقلابا شاملا على جميع المعايير الدينية والاجتماعية والفطرية، ويترافق ذلك مع عولمة الإفرازات القيمية المادية والسلوكية الشاذة والمدمرة لهذا الانقلاب الشامل، وفرضها على جميع الشعوب وخاصة المسلمة منها في حملة تغريب غير مسبوقة وعبر مختلف السبل السياسية والقانونية والحقوقية والإعلامية، وكنت أشرت في مقال “قراءة في آثار حملة التغريب ووسائل مواجهتها”، إلى التجليات العملية لهذه الحملة في واقعنا، وما يعنينا بشكل رئيس منها هنا هو التغريب الاجتماعي القائم على تفكيك الأسرة، والذي بدأ بدعاوى تحرير المرأة والمساواة بالرجل على يد الحركة النسوية الليبرالية، ثم انتقل إلى فلسفة الجندر (النوع الاجتماعي) على يد الحركة النسوية الراديكالية، ليصل أخيرًا إلى نشر الشذوذ الجنسي وتقنينه وتجريم معارضيه، في صورة تظهر مدى استعار المعركة ليس على الدين فقط بل على الفطرة البشرية نفسها، وبشكل لم يُشهَد في التاريخ البشري إلا في أفعال قوم لوط عليه السلام، بل بصورة أشد وأخطر حيث أدنى نقد أو رد يقابل بسعار إعلامي حقوقي قانوني غربي، يقوم على قاعدة: ((أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))، يقول الشيخ محمد شاكر الشريف: «المطلـوب أو المعروض بداية، هو ما أسموه زوراً: “تحرير المرأة” ثم تطور الأمر إلى المطالبة أو الدعوة إلى المساواة، ثم انتقل الأمر إلى إلغاء الفروق التشريعية، عن طريق إبطال كل التشريعات التي تفترق فيها المرأة عن الرجل (ولو كانت التشريعات دينية)، والعمل على إلغاء الفروق البيولوجية أو إلغاء نتائجها؛ حيث اخترعوا مصطلحاً جديداً، هو: (الجندر) وفيه يُنظر للرجل أو المرأة على أنه نوع وليس جنساً؛ فهو مصطلح يراد إحلاله محل لفظ الجنس؛ إذ الأخير يعبِّر عن الفوارق البيولوجية بين الذكر والأنثى، أما الجندر؛ فهو يعبِّر عن الفوارق الاجتمـاعية بينهما والدور الذي يرغب أحدهمــا فـي القيـام بـه؛ فليست المـرأة -وَفْق مصطلح الجندر- مَنْ كانت تتوفر فيها خصائصها البيولوجية؛ وإنما من أراد أن يقوم بوظيفة المرأة ولو كان رجلاً. وكذلك ليس الرجل من توفرت فيه خصائصه البيولوجية وإنما من أراد أن يقوم بوظيفة الرجل حتى وإن كانت امرأة، وتبذل الحركة النسوية الآن جهودها الحثيثة في محاولة تحقيق وتنفيذ القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، وخاصة مؤتمر بكين 95 الذي يمثل نقطة فارقة في تاريخ الحركة النسوية؛ حتى إنه ليؤرَّخ به، فيقال: مؤتمر بكين، ومؤتمر بكين زائد خمسة (بكين + 5) وبكين زائد عشرة (بكين + 10)، وتطبيق اتفاقية: (مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة)، التي تُعرَف اختصاراً بـ: (السيداو)، والتي تعني في حقيقتها: إلغاء الفروق التشريعية بين الرجل والمرأة، ومحاولة إلغاء آثار الفروق البيولوجية بينهما، وهو ما يعني في النهاية: القضاء على الصورة الشرعية والإنسانية للأسرة التي تتكون من زوج وزوجة وأولاد».

هذا ومن الكتب الجيدة التي شرحت الشذوذ الجنسي الحاصل وبينت آثاره وأوضحت مآلاته كتاب “دين المؤتفكات”، لكاتبه “عمرو عبد العزيز”، وخاصة في تبيينه الأسباب الرئيسة لهذا الشذوذ في مقدمة كتابه، وهي باختصار:

1 – فلسفة التطور المجتمعي الشامل.

2 – الحركة النسوية.

3 – الفردانية.

4 – ثورة حضارة البهجة (الجنس).

5 – النسبوية وما بعد الحداثة.

أخيرًا: فما أحوج البشرية في زماننا هذا الذي سيطرت فيه حضارة الشيطان العلمانية بفلسفتها الليبرالية، وقيمها المادية المحاربة للحق والمضادة للفطرة السوية، إلى نور الوحي الحق الذي يبدد ظلمات الكفر ويدمغ الباطل وأهله..

وما أحوج أمة الإسلام إلى التحرر والتخلص من سطوة القيم الغربية المادية، والعودة الحقيقية والشاملة إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم -علما وعملا ودعوة وجهادا وصبرا-، لتقوم بالدور المناط بها في حمل أمانتها لإنقاذ البشرية عبر أداء رسالتها التي عبر عنها ربعي بن عامر رضي الله عنه يوما، فقال لرستم: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله».

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٢ جمادى الآخرة ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى