فقدان البوصلة واضطراب سلم الأولويات مجلة بلاغ- العدد السادس
#من_إدلب
#ما_يسطرون
فقدان البوصلة واضطراب سلم الأولويات مجلة بلاغ- العدد السادس
يقول علماء السياسة والباحثون في القوانين التي تحكم حركة التاريخ: إن الاحتياجات الأساسية للجماعات وللدول تشبه إلى حد كبير احتياجات الإنسان الفرد، وكذلك ترتيب الأولويات.
فكما أن ترتيب الاحتياجات الإنسانية للفرد يبدأ بالحاجة لضمان البقاء، ثم البحث عن الاستقرار، فالتنمية؛ كذلك نفس الأمر بالنسبة لترتيب سلم الأولويات عند الجماعات.
فالجماعات تبحث أولا عما يضمن لها بقاءها واستمرار وجودها (العمل السري، السعي لامتلاك القوة، البحث عن التحالفات، وأشكال أخرى..)، فإن هي ضمنت ذلك تنتقل لمرحلة البحث عما يحقق لها الاستقرار (المكان المستقر، والتنظيم، والخدمات، والبنى التحتية..)، فإن هي ضمنت ذلك تبدأ تبحث عن التطوير والتنمية وما يحقق الرفاه لعناصرها ومجتمعاتها.
أن تبحث جماعة ما عن الاستقرار في ظل صراع الوجود؛ فهذا يدل على خلل في التفكير لدى هذه الجماعة، واضطراب في سلم الأولويات لديها، وربما دل على عدم فهمها لطبيعة الصراع أصلاً!!
يقسم علماء السياسة الصراعات إلى أنواع:
منها ما هو تنافسي: بمعنى تحصيل كل طرف مكاسب بنسب ما، مع المحافظة على الوجود لطرفي الصراع.
ومنها ما هو صفري: الذي لا يقبل به أحد الطرفين إلا بإنهاء وجود الطرف الآخر.
ومنها ما هو عدمي: أن يفني أحد الأطراف نفسه في سبيل إلحاق الضرر بالطرف الآخر “خيار شمشون”…
إن من البدهي أن نعلم أن صراعات المجتمع الدولي والأنظمة الوظيفية ضد الجماعات الإسلامية بشكل عام والجهادية منها بشكل خاص هو من النوع الثاني (صفري)، وأنهم لا يتعايشون مع هذه الجماعات أبدا؛ وإن تنازلوا لها في بعض الأحيان، أو تغاضوا عنها لبعض الأزمان؛ إنما هو فقط انتظار الوقت المناسب للقضاء الكامل عليها، أو هي استراتيجية متبعة تستغرق بعض الوقت؛ والواقع في العالم الإسلامي بشكل عام وبلدان الربيع العربي بشكل خاص أصدق شاهد على ذلك.
كما أنه من البدهي أن نعلم أن مجرد تهديد الوجود كفيل بزعزعة الاستقرار وإيقاف عجلة التنمية؛ وأن سلم الأولويات عند الخصوم يبدأ بمهاجمة الوجود، لا البحث عما يقوض عملية التنمية أو يزعزع الاستقرار؛ قال جاسم سلطان في كتاب “قواعد في الممارسة السياسية”: «نلحظ ذلك في تفكير ونمط فعل تنظيم القاعدة، حين أراد أن ينقل الولايات المتحدة الأمريكية من حالة النمو إلى فقدان الاستقرار، التي تجعل النمو يتلاشى، ثم إشعارها بتهديد الوجود. كما نجد نفس القضية في تعامل الولايات المتحدة مع تنظيم القاعدة، حين أرادت ضرب استقراره في أفغانستان التي كانت تمثل قاعدة انطلاق له، لتطرح عليه سؤال الوجود».
إن ما يضمن وجود / بقاء الجماعة بل واستقرارها وتطورها هو امتلاكها لعوامل القوة، وما يحقق توازن الرعب – إن لم يمكن توازن القوة – بينها وبين خصومها، أو قدرتها على زرع اليقين عند خصومها، أن مجابهتها ستكون مكلفة جدا، وليس نجاح الجماعة -إن وجد أصلا- في المجالات الفرعية من الصراع أو تحقيقها لبعض المكاسب الهشة، أو نواياها وغاياتها وطموحاتها من وراء الاستقرار.
إن انحراف الجماعة عن عقدة الصراع، وضعف تركيزها على عوامل النجاح الحرجة، وانشغالها عن ساحة الفعل الرئيسة بساحات عمل فرعية -غير مؤثرة في حسم الصراع- لن يؤدي إلى تغيير نوع ودرجة الصراع، ولا للتعاون أو التفاهم أو حتى التغاضي عنها، علاوة عن تحقيق المكاسب في الصراع؛ إنما توازن القوة أو توازن الرعب، وإقناع الخصم أن الانتقام آتٍ لا محالة في حال تعرضه للجماعة، هو ما يضمن للجماعة بقاءها واستقرارها لا نواياها الحسنة.
كذلك مما يضمن للجماعة بقاءها قدرتها على غرس الانطباع عند خصومها بأنها قد تسلك أي مسلك للانتقام حتى لو تضررت هي نفسها، أو أنها قد تغير شكل وجودها، أو أنها قد تغير نوع الصراع إلى صراع عدمي، وأن وجودها غير مقصود بحد ذاته؛ فهي بذلك تُفقد عدوها الهدف المحدد “تهديد الوجود”، كما تدفعه لمراجعة تكلفة مهاجمة من خياره “علي وعلى أعدائي”.
يقول روبرت غرين في كتاب “33 استراتيجية للحرب” في “استراتيجية أرض الموت”: «إذا كان إحساسك بأنه ليس لديك ما تخسره يدفعك قدما، فإنه يمكن أن يفعل التأثير نفسه مع الآخرين. عليك أن تتجنب كل صراع مع الناس في هذا الموقع. ربما كانوا يعيشون ظروفا رهيبة، أو ربما كان لديهم لأي سبب كان ميول انتحارية؛ في أي حال من الأحوال فهم يائسون، والبشر اليائسون يخاطرون بكل شيء في قتال. هذا يمنحهم امتيازا هائلا. فبعد أن هزمتهم الظروف لم يعد لديهم ما يخسرونه. أنت لديك ما تخسره، دعهم وشأنهم».
ولذلك تجد من استراتيجية الأعداء أنهم يخوضون المعارك المحدودة والبطيئة، فيما يُعرف “بدبيب النمل” أو غيرها من التسميات، حتى لا تغير الجماعات من استراتيجيات المواجهة لديها، وتبقى فاقدة لزمام المبادرة، وتحكمها ردات الفعل؛ قال الشيخ أبو مصعب السوري -فرج الله عنه- في “إدارة وتنظيم حرب العصابات”: «الذي يقوم بالفعل يحافظ على التوازن النسبي؛ لأنه يعرف ماذا يفعل، الذي يقوم برد الفعل يقوم بأعمال غير متوازنة؛ لأنه يتحرك ضمن الضرورة وضمن أحسن ما يمكن..، الطرف المنسحب هو الذي يتكبد الخسائر وليس الطرف الذي يهاجم هو الذي يتكبد الخسائر، فزمام المبادرة يجب أن تحافظ عليه».
الأستاذ: حسين أبو عمر