“عبادة الوقت” ثغر المجاهد الفطن – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٦٢ – ذو الحجة ١٤٤٥ هـ
الشيخ أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
حديثنا اليوم عن “عبادة الوقت” ثغر المجاهد الفطن، الثغر الأهم لتحقيق العمل الأفضل للمجاهد في سبيل الله ليصل في عبادته أعلى درجات الكمال ويؤديها على الوجه الأفضل لأنها من أجَلِّ وأعظم العبادات التي يتقرب بها المجاهد إلى الله عز وجل.
لكل عبادة وقت مخصوص حددته الشريعة بشروط وواجبات وأركان، فقبل الشروق صلاة الفجر، والظهر عند استواء الشمس في كبد السماء، وبعد ميلانها العصر، وبعد الغروب المغرب وعند اسوداد العتمة العشاء، والصيام في نهار رمضان وفي الليل إفطار، والحج مرة في العام في ذي الحجة، والزكاة عند حولان الحول.
ومن عبادة الوقت والتقرب إلى الله ترك العبادة في غير وقتها المخصص لها عند وجود مانع عنها كالحيض والنفاس أو وجود عذر كالجهاد والسفر والمرض.
كل عبادة حددتها الشريعة بوقت دخول وخروج وشروط وواجبات وأركان لا تتم العبادة إلا بتحقيقهم، وكذلك عبادة الوقت للمجاهد في سبيل الله، لا بد أن يحقق لها شروطها في جهاده ورباطه ونفيره حتى يتم جهاده على الوجه الأمثل الذي أمره الله به، فلا تكون سببًا في التقصير بما هو واجبٌ عليه أو مكلفٌ به، وهذا من حق الجهاد الذي أمره الله عز وجل به، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن أهم ما يجب الانتباه له في عبادة الوقت النظر في حال الأمة وما تحتاجه من علوم أو خدمات أو طاعات أُهملت في واقع الجهاد أو قصر بها العاملون لدين الله، ثم العمل على تعلمها ودراستها وتحسينها وتنفيذها والتذكير بها والحض عليها ونشرها بين الناس.
عبادة الوقت في الجهاد شبيهة بالفرائض والصلوات فلكل عبادة وقت محدد لا يسبقه ولا يخرج عنه، فلا تصلي الظهر قبل وقته أو بعد فواته عند العصر، وكذلك في الجهاد عندما يكون عبادة الوقت سد الثغور والرباط فلا ينفع طلب العلم والتفرغ له، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه رغم كثرة طلبه للعلم وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وضعف جسمه لم يمنعه من الجهاد وحضور الغزوات، والثابت في الأمة أن على كل عالم أن يجاهد وعلى كل مجاهد أن يطلب العلم، ولا أقل من أن يتعلم من دينه ما لا يسع جهله.
ومن عبادة الوقت عدم الاكتفاء بالرباط والعدو يغزو بلاد المسلمين وينكل في أعراضهم، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء:75] فعبادة الوقت الهجوم والقتال والتحرير.
ومن عبادة الوقت عدم الاكتفاء بالرباط أو الاقتحام دون الأخذ بأسباب الأمان والإعداد والتدريب والتجهيز المسبق، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] فعبادة الوقت التدريب والإعداد والتحضير.
فإياك أن تضيع وقتك ونفسك ثم تدعي أنك تجاهد أو تصلي وأن مهمل لما هو واجب عليك في العبادة، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: “أعظم هذه الإضاعات إضاعتان هُما أصلُ كُلِّ إضاعةٍ: إضاعة القلب، وإضاعة الوقت” ومن إضاعة الجهاد إضاعة القلب والوقت وإهمالهما حتى لا يكونا جاهزين ومستعدين للعبادة في وقتها المطلوب.
عبادة الوقت في الجهاد تكون واجبة بحال المجاهد وساعته التي نفر فيها ابتداءً، كما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط -كالزاد والراحلة- بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم”،
إن القيام بواجب الوقت يعتبر من أولى الأولويات والواجبات للمجاهد فلا ينبغي الانشغال عنه بعبادة أخرى، فالأفضل والأجر منحصر به لما أولاه الله من أولوية مخصصة في وقته كالدعاء يوم عرفة، وإجابة المؤذن ساعة الأذان، ولبس النظيف والتطيب والتطهر لصلاة الجمعة، والدعاء في آخر ساعة من يوم الجمعة، والتكبير في الأيام الحرم وغيرها.
عبادة الوقت هي الخطوة الحالية المهمة لأي خطوة قادمة في أي حدث تعيشه الآن، وهي الفريضة القائمة في الزمن الحاضر والذي يجب أن يكون على أفضل وجه.
عبادة الوقت للمجاهد تدخل في أنواع الجهاد الثلاثة بالمال والنفس واللسان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهِدوا المشرِكينَ بأموالِكُم، وأنفسِكم، وألسنتِكُم» صحيح أبي داوود.
عبادة الوقت للمجاهد الفطن الحاذق تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال والحاجة والمرحلة التي يمر بها المجاهدون، ومن ذلك الحالات التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، ومنها:
*تأمين الناس عند الخوف: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَجْوَدَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، قالَ: وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا»، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وجَدْتُهُ بَحْرًا يَعْنِي الفَرَسَ»” صحيح البخاري.
*طاعة الأمير المطلقة في الخير: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» صحيح البخاري.
*الاستطلاع: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «مَن يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ؟»-يَومَ الأحْزَابِ- قَالَ الزُّبَيْرُ: أنَا، ثُمَّ قَالَ:«مَن يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أنَا، فَقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» صحيح البخاري.
*التخذيل عن المجاهدين: لما جاء نُعَيمُ بنُ مَسعودٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا أوصاه أن يكتم إسلامه ويذهب إلى المشركين والمنافقين فيخذلهم عن المجاهدين، قال صلى الله عليه وسلم: «خَذِّلْ عَنَّا»، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحَرْبَ خُدْعَةٌ» صحيح أبي داود.
*كثرة الدعاء: يوم بدر بعد أن عبأ الجيش ونصب الخيام وتجهز الجميع للقتال استقبَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القِبلةَ وجعل يدعو ربه دعاءً طويلًا حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاهُ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: “يا نَبيَّ اللهِ، كَفاكَ مُناشَدَتُكَ ربَّكَ؛ فإنَّهُ سيُنْجِزُ لكَ ما وَعَدَكَ، وأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]”.
*الإعداد والتجهيز: يوم الخندق يقف صلى الله عليه وسلم جنبًا إلى جنب مع الصحابة في الخندق يحفر كما يحفرون ويجوع كما يجوعون، بل وينتدبونه صلى الله عليه وسلم لأصعب المهام عندما فاجأتهم صخرة كبيرة صعب عليهم تحطيمها، وكانوا من شدة الجوع يربطون على بطونهم حجرًا فكان صلى الله عليه وسلم يربط على بطنه حجرين.
*الإطعام: كل الصحابة يعملون لا يتخلف منهم رجل واحد، لكن لابد من رجل يجهز الطعام ليطعم هؤلاء المجاهدين الذين يتجهزون للقاء العدو، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “يا رَسولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أنْتَ ونَفَرٌ، فَصَاحَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ: «يا أهْلَ الخَنْدَقِ إنَّ جَابِرًا قدْ صَنَعَ سُؤْرًا، فَحَيَّ هَلًا بكُمْ» صحيح البخاري، فكان من بركة اجتهاده أن ذبيحةً صغيرةً وصاعًا من شعير أطعمت أهل الخندق كلهم وكانوا قرابة ثلاثة آلاف والقصعة تغط وتمتلئ بالطعام.
*الحراسة في الليل: قال صلى الله عليه وسلم: «ليتَ رجُلًا صالحًا مِن أصحابي يحرُسُني اللَّيلةَ»، كلهم مجاهدون وكلهم كانوا في المعركة وكلهم عائدون متعبون، لكن عبادة الوقت في هذه الأثناء تتطلب مهمة خاصة هي الأفضل والأنفع لحال الجيش المتعب، عن عائشة رضي الله عنها “أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سهِر ذاتَ ليلةٍ، فقُلْتُ: “ما شأنُكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «ليتَ رجُلًا صالحًا مِن أصحابي يحرُسُني اللَّيلةَ» قالت: فبَيْنا نحنُ كذلك إذ سمِعْتُ صوتَ السِّلاحِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن هذا؟» قال: سعدُ بنُ مالكٍ قال: «ما جاء بكَ؟» قال: جِئْتُ لِأحرُسَكَ يا رسولَ اللهِ قال: فسمِعْتُ غطيطَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نومِه” صحيح ابن حبان.
وعندما خرج أنس بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه للحراسة، نبهه صلى الله عليه وسلم قائلًا: «ولا نُغَرن من قِبلك الليلة» أي لا تدع فرصة للعدو أن ينال منا ويصيبنا وأنت نائم، وكأنه يحضه على أن يستيقظ طيلة الليل.
*الشورى: كان صلى الله عليه وسلم عند المدلهمات والمصاعب الخطيرة يجمع المسلمين عامة وأهل الجهاد خاصة وأول ما يفعله ينادى فيهم أن: «أشيروا علي أيها الناس»، وقد كان هذا من هديه صلى الله عليه في كل غزوة ومع كل مدلهمة تحيط بالمسلمين.
*وإليك نصائح مهمة لعبادة الوقت وتأديتها على وجهها الأمثل وتحقيق فرائضها، ومنها:
-إخلاص النية لله عز وجل والتوكل عليه؛ قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]
-اتهام النفس بالنقص وأن التوفيق من الله وحده؛ فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم حين يصبح أو يمسي: «اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نِعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنكَ وحدَك»، ومن دعائه: «اللهمَّ رحمتَك أرجو فلا تكِلْني إلى نفسي طَرْفةَ عينٍ أصلِحْ لي شأني كلَّه».
-مراعاة الزمان والمكان؛ حتى لا تعود عليه وعلى الأمة بالخسران أو الحرمان كما ورد عن العلماء في تقرير القاعدة الفقهية “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”.
-الانضباط بحدود الشرع والعقل والاعتدال؛ فلا إفراط ولا تفريط، قال تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة:8].
-الاستخارة والاستشارة؛ قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ما خاب مَنِ استخار، ولا نَدِم مَنِ استشار» صححه الألباني.
-الإتقان في العمل؛ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ».
كما أسلفنا سابقًا بأن لكل عبادة وقتًا محددًا يجب الالتزام به “فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”، لذا لابد من إفراغ الوسع في تحقيق أسباب كل عبادة في وقتها، فقد تكون عبادة الوقت في يوم من الأيام القيام على إطعام الناس وفي يوم آخر تأمينهم من الخوف والفزع والقصف، وفي غيرها إنشاء المؤسسات وتقديم الخدمات والسهر على المتطلبات، وفي يوم آخر توعيتهم ونصحهم وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح، وفي يوم غيره الصدع بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى، وهكذا تتغير عبادة الوقت بتغير حاجة المسلمين ومتطلباتهم، فما ينفع في وقت من الأوقات قد لا ينفع في وقت آخر والتوفيق والسداد من الله عز وجل لعباده المجتهدين المتقين، ومن اتقى الله عز وجل وحقق الشروط والتزم أوامره وانتهى عن نواهيه ثم اجتهد فأخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران.
ومن عبادة الوقت اليوم في محررنا النزول إلى الشوارع والساحات والدوارات والتجمهر والتظاهر والاعتصام السلمي، والعمل الدؤوب وبذل الوسع في تحقيق الأسباب السلمية لتحرير المخطوفين وإسقاط الطغاة والمجرمين.
اللهم ارزقنا بركة العبادة والوقت ووفقنا للعمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من الحسرة والغفلة والندامة، ونعوذ بك من خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.