عبادات القائمين على الثغور (3) – مجلة بلاغ العدد ٦٤ – صفر ١٤٤٦ هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
ينظر عامة الناس إلى القائمين على الثغور، فيتساءل بعضهم عن عباداتهم الخاصة: “كم وكيف هي؟”، فالقائم على الثغر ينفق وقته في الحفاظ عليه، قتالاً كان أو رباطاً على الثغور الخارجية، أو جهاداً وإصلاحاً في الثغور العامة داخل المجتمع المسلم، فكأنهم يتَقالُّون العبادات الخاصة التي لا يرون منها الكثير، فيُشكل هذا عليهم، بل وينصح بعضهم القائمين على الثغور أن ينشغلوا بعباداتهم الخاصة وكأنهم لا يقومون بها، والمشكلة هنا في فهم معنى وأنواع العبادة، ومعرفة عظم أجر الجهاد بأنواعه.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟، حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ، لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ» أخرجه البيهقي، والحاكم، والنسائي، وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان في الرِّباط ففزعوا إلى السَّاحل، ثم قيل: لا بأس، فانصرف النَّاس وأبو هريرة واقفٌ، فمرَّ به إنسانٌ فقال: ما يُوقِفُك يا أبا هريرة؟! فقال: “سمعتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «موقِفُ ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجرِ الأسود»” أخرجه ابن حبان، والبيهقي، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ؟»، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: «إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ … لا أقولُ: إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ» أخرجه أبو داوود، والترمذي، وأحمد، وصححه الألباني.
فالأجر يعظم بحسب نوع العبادة والإخلاص فيها وعموم نفعها، وإن عبادة الوقوف على ثغور حفظ الأمة وإصلاحها أعظم من عبادات النفل التي لا تتعدى صاحبها، وخير دليل على هذا الأحاديث أعلاه، وهي تبين بالحساب أن أجر عبادات القائمين على الثغور هذه تعدل آلافاً مؤلفةً من أضعاف العبادات الأخرى من غير الأركان، وإن أركان الإسلام تُميز بين المسلم والكافر لا بين المسلمين، فالمسلمون مأمورون بها يؤدونها جميعاً، وإن كان بعض الأداء خيرٌ من غيره في الظاهر، والله أعلم بالسرائر.
كما أن الأجر يعظم مع المشقة التي لا يطلبها المرء تنطعاً إنما ترافق العمل لأساس طبيعة العمل، أو تحضر قدراً في استطاعة المرء أو ظروف العمل المحيطة، وإن القيام على الثغور من أصعب الأعمال وأكثرها مشقة في طبيعتها، بغير قصدٍ إلى المشقة ولا تنطعٍ، وهذا حاضرٌ في الثغور الخارجية ضد العدو، والثغور الداخلية في معترك الحفاظ على الشورى والعدل وصلاح الأمة.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:120-121].
قالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “يا رَسولَ اللَّهِ، يَصْدُرُ النَّاسُ بنُسُكَيْنِ، وأَصْدُرُ بنُسُكٍ؟ فقِيلَ لَهَا: «انْتَظِرِي، فَإِذَا طَهُرْتِ، فَاخْرُجِي إلى التَّنْعِيمِ، فأهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بمَكَانِ كَذَا، ولَكِنَّهَا علَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أوْ نَصَبِكِ»” رواه البخاري ومسلم، قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: “قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى قَدْر نَصَبك أَوْ قَالَ: نَفَقَتك» هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الثَّوَاب وَالْفَضْل فِي الْعِبَادَة يَكْثُر بِكَثْرَةِ النَّصَب وَالنَّفَقَة، وَالْمُرَاد النَّصَب الَّذِي لا يَذُمّهُ الشَّرْع، وَكَذَا النَّفَقَة” انتهى.
فعبادة القيام على الثغور أعظم أجراً لطبيعتها التي فيها مشقةٌ وخوفٌ، والعبادات التي تكون في هذا المقام أعظم أجراً لأنها تكون عند حضور المصاعب والمعوقات، ويجتهد صاحبها كي يقوم بها على الوجه الأمثل.
كما أن القيام على هذه الثغور في غالب المكان والزمان لا ينهض له إلا فئةٌ أو طائفةٌ من المؤمنين، يكون لهم التميز بالفضل والأجر والفلاح ما صلحت نياتهم، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
هذا النفير إلى ثغور الخدمة العامة والذود عن الأمة، يعظم أجره ويعلو قدره بقدر الحاجة إليه، وقلة عدد النافرين للقيام به، وبسبب ابتعاد الناس عن الفهم والمنهج الصحيح في العبادة بعد انتشار مذاهب العلمنة التي جعلت الدين طقوساً شخصيةً أو شعائرَ جماعيةً في مناسبات محدودة، لم يكتف القاعدون عن قتال أعداء الأمة التاركون لفريضة الإصلاح داخلها بقعودهم، بل تجاوزوا ذلك إلى الإنكار على المجاهدين العاملين، بكلام من قبيل: “يا أبا عبيدة.. جاهد بالسنن”، الذي قاله أحد علماء السلاطين وهو يخاطب المجاهدين المحاصرين في غزة منذ عقود أن يتركوا جهاد الدفع ضد يهود، وينشغلوا عن ذلك بالعبادات التي هم يؤدونها أساساً مع جهادهم وهم أولى بها وقد وفقوا إليها.
فسبحان الله الذي استعمل أقواماً واستبدل بغيرهم، أحب أقواماً فوفقهم وأعانهم، وأبغض أقواماً فكره انبعاثهم وثبَّطهم، ورحم قوماً فيما يلاقونه من الشقاء، وأوبق قوماً فيما ابتلوا به من نعمة، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}.
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا ووفقنا وأعنا.. والحمد لله رب العالمين.