طَواغِيتُ”كُم” – مقالات مجلة بلاغ العدد ٦٩ – شعبان ١٤٤٦ هـ
مجلة بلاغ العدد ٦٩ - شعبان ١٤٤٦ هـFebruary 04, 2025
![](http://i0.wp.com/fromidlib.com/wp-content/uploads/2025/02/%D8%B7%D9%88%D8%A7%D8%BA%D9%8A%D8%AA-%D9%83%D9%85.jpg?resize=565%2C470&ssl=1)
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
شهيرةٌ قصة الرئيس البوسني المجاهد المتواضع “علي عزت بيغوفيتش”، حيث وصل ذات مرةٍ إلى صلاة الجمعة متأخراً وكان قد اعتاد الصلاة في الصفوف الأمامية، ففتح له الناسُ الطريق إلى أن وصل إلى الصف الأول فاستدار وبغضبٍ قائلًا لهم: “هكذا تصنعون طواغيتكم”.
إن الطغيان له أركان، أهمها طرفاه، الطاغية والشعب الذي صنعه، كما أن للوثنية أصنامٌ صنعها عبادها بأيديهم، ثم رفعوها فوقهم ليشبعوا شهوة التقديس الكامِنَة، وكما يستسهل الوثنيون عبادة ما يرونه بأعينهم وإن كان حجراً، ويكرهون التَّفكُّر في آلاء الله الدالة عليه، يستسهل الخانعون للطغاة ركونهم إلى الدنيا في ظل من يأمر وينهى ولا يكلفهم عناء التفكير في الشأن العام، وما يقتضيه من شورى ومحاسبة، وجلب المصالح أو طلبها، ودفع الفساد وأهله، وكذا يستسهل الطاغية الاستبداد الذي لا شورى تمنعه، والظلم الذي لا عدل يرفعه.
إن استبدال طاغيةٍ مكان طاغيةٍ سلوكٌ نابعٌ من استعدادٍ نفسيٍّ عند الشعوب التي لم تعتد على حياة الحرية والكرامة، ولم تمارس حقوقها السياسية لتجد حلاوتها وإن كانت مكلفة، فلا يمكث الشعب الذي اعتاد الحياة في ظل طاغيةٍ إلا قليلاً؛ حتى يطلب طاغيةً، وربما يحسد الشعوب الأخرى على طغاتها إن لم يكن له طاغية، فينادي: “اجعل لنا طاغية كما لهم طاغية”، إنها سنن الأمم الهالكة، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستُتَّبعُ، وقال الله تعالى عن بني إسرائيل وقد كفروا نعمةَ أن نجاهم من عدوهم: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، لقد عاشوا زمناً طويلاً في مصر التي فيها أوثان كثيرة، ورزحوا تحت طاغية متجبر متأله، لم يكن يستعملهم إلا في الخدمة وحقير الأعمال، فذلَّت نفوسهم، واستسهلوا العبودية للصور البشرية والحجرية.
لكن يوجد فارقٌ دقيقٌ بين الحياة في ظل طاغيةِ أو آلهةِ قوم آخرين، والحياة في ظل طاغيةٍ أو آلهةٍ اختارها أو صنعها هؤلاء القوم بأنفسهم ولأنفسهم، أو ربما صنعها لهم عدوهم لكي يشغلهم ويقهرهم بها، والفارق نفسيٌّ هو نسبُ الطاغية إلى الشعب؛ فقط، والعجبُ أن بعض الشعوب ترفع طغاتها إلى مرتبة أعلى من مرتبة الدين إذا كان عندها دينٌ، ومن الوطن إن كانت تقدس الوطن، والأعجب من ذلك تفاخر بعض الشعوب وتطاولها على بعضها بتمجيدِ الطُّغاة، كل شعب يقول للأخر: رئيسنا خيرٌ من رئيسكم، ملكنا خيرٌ من ملككم، أميرنا خيرٌ من أميركم، طاغيتنا خيرٌ من طاغيتكم!.
إن أكثر ما يتباهى به الطغاة وأذنابهم وذبابهم هو السجن الكبير، الذي يحتفلون ببناء أسوارهِ، ويتغنون بالزنازين المتعددة الأنواع التي فيه، ويمدحون الجلادين المتعددي الاختصاصات، الذين يعملون بهمةٍ عاليةٍ وحرصٍ شديدٍ لتكبيل من هم داخله، ويتولى مهمة التجهيل والتضليل آخرون، ثم يسمونه “الوطن”، ويجعلونه كله بمن فيه تحت الطاغية ولخدمته، ويبتهج الشعب المقهور المخدوع عندما ينهض أحد الممثلين الموظفين من قبل الطاغية لينتقد الوضع ويطالب بالإصلاحات، وهو ينادي: “يا سيد الوطن” أو “يا قائد الوطن”.
ومع الأسف إن الكثير من النخب المتصدرين للشأن العام، الذي يعرفون بإخلاصهم لدينهم وأمتهم يخدعون بالطغاة، ويتعجلون في الحكم عليهم، بل ويمجدونهم لأنهم خُدعوا بالوهم الذي يساق بين يديهم، أو من باب هذا منا ويجب أن ندعمه لكيلا يأتي طاغيةٌ من غيرنا ليقهرنا ويتحكم بنا، فيقهرهم هذا الطاغية ويتحكم بهم بأسوأ مما يظنون أو يحذرون، وإن في التاريخ عِبرًا.
ومن عجيب ما تقرأ القصيدة المطولة التي مدح فيها الشاعر العريق أحمد شوقي الضابط التركي مصطفى كمال أتاتورك الذي نصبته الدول الأوروبية رئيساً لتركيا لاحقاً، مطلع القصيدة:
اللَهُ أَكبَرُ كَم في الفَتحِ مِن عَجَبٍ *** يا خالِدَ التُركِ جَدِّد خالِدَ العَرَبِ.
وفي القصيدة أبيات أعجب من هذا البيت الذي يشبه فيه أتاتورك بخالد بن الوليد رضي الله عنه، أتاتورك الذي نهض في فلتةٍ من الفلتاتِ ليحرر مساحةَ الدولة التركية من الاحتلال الفرنسي والبريطاني والايطالي واليوناني!، بعد انهيار الدولة الدولة العثمانية إثر الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ليقوم بعد تنصيبه بإلغاء الخلافة وبناء دولةٍ قوميةٍ محاربةٍ الدين الإسلامي بعلمانيةٍ عنيفةٍ، ثم تبين أنه صنيعةٌ بريطانيةٌ، بعد أن فتن الكثير من الناس في دينهم، وطعن الأمة طعنةً نجلاء ما زالت دماؤها تنزف إلى الآن.
جمال عبد الناصر الذي شارك في ثورة أو انقلاب 1952 في مصر، حيث كان مع حركة الضباط الأحرار التي استولت على الحكم، هناك شهادات أنه كان إخوانياً، وأقلها أنه كان على علاقةٍ جيدةٍ معهم، بعد أن تمكن من زمام السلطة واستحكم، نكَّلَ بالإخوان وبعددٍ من الضباط الأحرار، وقاد مصر من هزيمةٍ إلى هزيمة، وازداد تغريب المجتمع المصري في زمانه، ومع جرائمه الكثيرة كان فتنةً للشعب المصري والشعوب العربية التي بررت طغيانه بسعيه في سبيل القومية العربية، وعندما قرر التنحي نزلت الجماهير إلى الساحات لرفض ذلك، في مشهدٍ لتقديس الطاغية وتقديمه على الدين و”الوطن” و”المؤسسات” وكل القيم.
حافظ الأسد الذي استولى على السلطة في سوريا بانقلابٍ عسكريٍّ ودعمٍ دولي، وارتكب المجازر الفظيعة ضد المسلمين في حماة وغيرها، ما كان ليستمر لولا خضوع سائر الشعب له ولعصابته، وقد كُتبت فيه القصائد وأُنشدت الأناشيد، وكذا ابنه بشار الذي عُدِّل دستور البلاد لكي تنطبق عليه شروط تولي الرئاسة، ولم يعترض على ذلك إلا شخصٌ واحدٌ في “مجلس الشعب” كُتِم صوته فوراً، وهلَّلَ الشعب وقتها لمسيرة التطوير والتحديث التي أعلنها الطاغية، ثم كلفت الثورة عليه الملايين من الأرواح والأجساد والمليارات من الممتلكات حتى أسقطته.
والآن وبغض النظر عن أي اسم، ما الفرق بين هؤلاء الطغاة الذين في بلدانٍ أخرى أو من طوائفَ وأديانٍ أخرى وأي طاغيةٍ يكون من البلد ذاته وينتسب إلى الدين ذاته، إذا كانت طريقة التسلط وأساليب الطغيان ذاتها، والعلوُّ في الأرض وعبارات وشعارات التبجيل ذاتها، والألقاب وخلعات التقديس ونياشين وأوسمة التشريف ذاتها، والأجهزة الأمنية والسجون ذاتها، وغيرها من تقديم شرار الخلق وتسليطهم، ومحاربة الدعوة وأهلها والإصلاح وأهله، واللين لأعداء الدين والغلظة والشدة على المسلمين، فلا فرق بين هؤلاء الطغاة وأولئك إلا انتساب الطاغية إلى فئةٍ يجعله هواها خيراً من الطغاة الآخرين.
إن أول وأولى واجبٍ على الشعوب عامةً أن تقوم به هو منع ظهور الطغيان فيها، فالعلو في الأرض والفساد صنوان مدمران، ولم تقم حضارةٌ كرَّست الطغيان إلا وهلكت، فأكثر ما يصدُّ عن سبيل الله ويمنع دعوة الحق والصلاح هم الطغاة وأعوانهم، وأكثر ما يهدف إلى تجهيل الناس وإذلالهم وإفقارهم هم الطغاة وأعوانهم، فالحذر إنما يكون من هذا الخطر ابتداءً، فهو أكثر وأعظم خطرٍ يتهدد الناس في معاشهم ومعادهم، وغيره متفرعٌ منه ونتيجةٌ له.
والذين يتهاونون في التصدي للطغاة ومنع الطغيان منذ البداية، أو يُعمِلون هواهم وعاطفتهم المتعجِّلة وأوهامهم المضلِّلة للتسويف وخلق الأعذار، وتراهم يناكفون دعاة الحق والحرية والعدالة يدَّعون أن المصلحة العامة بالركون وجمع الكلمة تحت السلطة الشخصية أو الفئوية بغير ضمانات واضحةٍ ملزمة، يندمون بعد فوات الأوان، فلا بد من توعيتهم والأخذ على أيديهم منذ البداية كفعل أهل السفينة كي ينجو أهلها جميعاً.
وأقل الوعي بشأن الطغاة يُطلب من الذين يتهاونون في الحذر والتحذير منهم، أقله أن يعلموا أن الكمالَ لله، ولا بد من وجود خللٍ يُنتقد وأخطاءَ تستحق المعارضة، وهذا في الدول العادلة، فكيف الحال في غيرها؟!، فعلى من يدعي “المصلحة العامة” ألا يكون رئيساً أكثر من الرئيس، ولا ملكاً أكثر من الملك، ولا طاغيةً أكثر من الطاغية، وإن الأصوات التي تحذر من الطغيان وتتصدى له يتحمل أصحابها الكُلفة المشقة لكي تتحقق المصلحة العامة حقاً، تتحقق لمن يحب حياة الدعة ويهنأ بالسلامة، حتى إن كان موظفاً عادياً في نظام يسيطر عليه الطاغية، لكن ليس لمن يكون طاغيةً في إعانته للطاغية ربما أكثر من الطاغية نفسه، وإن كل طغيانٍ إلى زوال.