ربحُ الدنيا وربحُ الآخرة

ربحُ الدنيا وربحُ الآخرة أبو يحيى الشامي

 

واحسرتاه، واأسفاه، على من شهِد موسمَ فوزٍ عظيمٍ فضيعه، تعسَ وخاب وخسرَ من أدرك مكان وزمان نفحات الجنة فضيعها وآثر زَهَمَ الدنيا وزيفها.

إن الذي يؤثر حظ النفس وشهوتها ومكسب الدنيا وربحها على الربح الأبدي الباقي لخاسر، فكيف إن كان هذا الخسران في سوق الآخرة حيث كل ما يشرى رائج وبأثمن الأثمان!.

قال الله تعالى: {۞ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة : 111]، هذا في كل مكان وزمان، فكيف إن كان في الشام وفي آخر الزمان؟!.

إن الله لم يحرم الناس من طلب الرزق وابتغاء الفضل في أعظم المناسك والمواقف، فطلب الرزق عبادة ولكنه وسيلة لا غاية، ولهذا رغَّب الله في الآخرة وزهد في الدنيا وعاب قاصدها.

قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} [البقرة : 200-202]

إن الربح الدنيوي العاجل الذي يطلبه بعض الناس، ثم يجاهرون في طلبه حصراً، وينكرون عملهم للآخرة فجوراً، لهو محبطٌ للعمل، مهلكٌ للنفس، مسقطٌ للذات، مذهبٌ لماء الوجه، وإن الله يمد أهل الآخرة بالكفاف والغنى، ويمد أهل الدنيا بمثله، لكن شتان بين الذين أكرمهم بالطاعة ونضر وجوههم بعلو الهم والهمة، ومن أهانهم بشؤم المعصية وسود وجوههم بذلة استشراف الدنيا الدنية وسقط المتاع.

قال الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} [الإسراء : 18-20]

إن الأمة في ابتلاءٍ ومن أعظم أسبابه ومُصابه النخرُ في جسدها ووَهَنُ أبنائها، فكلما زادت نسبة المنحطين إلى الطين وحطام الدنيا ضعفت وهانت، ولا علو إلا علو الروح نحو باريها جل وعلا، فأي نصر وتمكين ومنا نسبة عظيمة تريد الدنيا؟!.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 152]

يا لشقاء من لم يعِ هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه وصححه الألباني، من حديث زَيْد بْن ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ“.

ويا لعجز من أتته فرصة لطلب الآخرة الباقية فطلب الدنيا الفانية، روى ابن حبان والحاكم وصحح الألباني حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَعْرَابِيّاً فَأَكْرَمَهُ، فَقَالَ لَهُ: “ائْتِنَا” فَأَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: “سَلْ حَاجَتَكَ“، قَالَ: نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم: “أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ“، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟! قَالَ: “إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ اللهِ أَنْ لاَ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا، قَالَ: فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ؟ قَالُوا: عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ، فَقَالَ: دِلينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ قَالَت: حَتَّى تُعْطِيَنِي حُكْمِي، قَال: ومَا حُكْمُكِ؟ قَالَتْ: أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةِ مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعٍ فِي مَاءٍ، فَقَالَتْ: أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ، فَأَنْضَبُوهُ قَالَتْ: احْتَفِرُوا فَاحْتَفَرُوا، فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ“.

إن في الناس من لا يرى إلا الدنيا ببصره القاصر وقد فقد بصيرته، ولا يزن ميزانه إلا الغث الدنيء، وإن كان يبدي خلاف ذلك حياء أو نفاقاً، فكيف بمن يعلنها ويشهد الناس عليها بلا استحياءٍ أنه لا يريد إلا الدنيا، وفي موطن من مواطن الآخرة الذي يتسابق فيه الناس بذلاً وفداءً؟!!، فكيف إن عمل عملاً ثقيلاً إن وزن في ميزان الآخرة فضيعه؟!!، أيعجبه أن يكون من أقوام ينصر الله بهم الدين ولا خَلاق لهم، قلما نرى من يجاهر بهذا، ونأسف لأننا رأيناه بيننا، ونرجو ألا نرى مثله في عامة أو خاصة.

(هدفي بالنهاية ربحي)، منا من يقصد ربح الآخرة، ومنا من يقصد ربح الدنيا، ولا حول ولا قوة الا بالله.

أبو يحيى الشامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى