حياة المجاهد الزوجية – #الركن_الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٥٢ – صفر ١٤٤٥هـ
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، خلق الله تعالى الإنسان على هيئة ذكر وأنثى، وجعل تزاوجهما شرطا لاستمرار كل منهما، وأن الذكر يحتاج الأنثى والعكس كذلك، فكما يحتاج المجاهد الطعام والشراب والهواء ليعيش ويكمل جهاده ويكون على قدر من الاستعداد، فهو بحاجة لشريكة حياة معه، تقاسمه الراحة والتعب، السعادة والحزن، الفرح والهم، قال تعالى: (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله، أي: “وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه”.
وادعاء الزهد في النساء أو عدم الحاجة لوجود شريكة في مسيرة الحياة، مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنسٍ رَضْيَ اللهُ عنه قال: جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوتِ أزْواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يسْألونَ عن عبادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، “فلمَّا أُخبروا كأنَّهم تَقالُّوها، وقالوا: أين نحن من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ قد غُفِرَ له ما تَقدَّمَ من ذنبِه وما تأخَّر؟! قال أحدُهم: أمَّا أنا فأصلِّي الليلَ أبدًا، وقال الآخرُ: وأنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفْطرُ، وقال الآخرُ: وأنا أعتزلُ النِّساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم فقال: «أنتم الذين قُلتُم كذا وكذا؟! أما واللهِ إنِّي لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأفطرُ، وأصلي وأرْقدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فليس مِنِّي» متفق عليه، بل وخالف سنن الفطرة، وما فطرت عليه البشرية من أول يوم خلق الله فيه البشر، حاله كحال من يقول: لا أريد الطعام أو الشراب أو الهواء، فسيدنا آدم رضي الله عنه كان منعمًا يعيش في نعيم الجنة، ولا حاجة هنا لذكر أوصاف الجنة وما تحويه من نعيم، لكنه لما خلق الله له حواء، “رآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه” وكذلك المجاهد السوي ذو الفطرة السليمة يبحث عن زوجة تشاركه حياته، قال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
ويا طوبى لمعشر النساء زوجات المجاهدين، صاحبات الغنيمة الباردة، لم لا وهي تشارك زوجها المجاهد أجره في الرباط والقتال والعمل والطريق والرماية والإعداد والتجهيز والتدريب، وهي جالسة في بيتها، بصبرها عليه ومساعدتها ودعائها له، إن هي أخلصت نيتها واحتسبتها صبرًا على زوجها وجهادًا في سبيل الله، بإعانة مجاهد والقيام على خدمته والتخفيف عنه.
وقد رأت الجاهلية الأولى الأنثى عبئا وعارا، فاستضعفوها وأذلّوها وحرموها حقوقها، وكان بعضهم يئدها وهي طفلة، بل كانت تورث مثل المتاع.
بينما ترى الجاهلية الحديثة الأنثى أيضًا عبئًا دون العار، لأن الجاهلية الحديثة لا تضع في قائمة أعمالها قيمة لأي أخلاق، فتطلب من المرأة العمل والنفقة والخروج من البيت، ومخالفة زوجها فيما تكره أو لا تطيق؛ بينما لو غضب منها مديرها وزجرها أو أهانها فلا مشكلة في ذلك مادامت تفعل ذلك لكي لا تكون عبئًا على أحد، وقد يكون العمل ثلاثين يومًا في الشهر وهي تمر بمراحل جسدية نفسية صعبة، ولكن لا اعتبار لهذه المشاكل عندهم،
ليأتي الإسلام فينصفَ المرأة إنصافًا لم يأت بمثله الأولون ولا الآخرون، فيقسم لها من الإرث، وتأخذ مهرها كاملا لها، وتكون مصانة عن النظر من الأجانب والغرباء، فلا يحل لأحد أن ينظر إليها إلا بأذن وليها وضمن مجلس شرعي.
ثم يأتي الجهاد ليرفع مقامها أكثر، فيخص نساء المجاهدين وأمهاتهم، بخصال تزيد على ما حباهنّ الله ضمن دائرة الإسلام، فالخير في الجهاد مضاعف لمن أحسن إليهن، وكذلك الإثم مضاعف لمن أساء لهنّ، فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُرْمَةُ نساء المجاهدين على القَاعِدِين كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِم، ما من رَجُلٍ من القَاعِدِين يَخْلِف رجُلا من المجاهدين في أهله، فَيَخُونُهُ فيهم إلا وقَف له يوم القيامة، فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يَرْضى» ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما ظنَّكم؟»، أي: فما تظنون في رغبة المجاهد في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام؟ أي لا يبقى منها شيء إلا أخذه.
فعلى المجاهد الذي خرج واهبًا روحه في سبيل الله عدة أمور و وصايا يجب أن يراعيها مع زوجته وشريكة حياته، التي قبلت أن تشاركه في جهاده وحياته الشاقة، ومنها:
_ الرفق والحنو والرحمة بها:
قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بالْمَعْرُوف) وذلك لأن طبيعة النساء ضعيفات رقيقات قليلات حيلة، فلابد من الرفق بهن والشفقة والحنو عليهن، قال صلى الله عليه وسلم: «رفقًا بالقوارير»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه».
_ التوصية بها للأهل والأقربين حين خروجه أو استشهاده:
كان رسول الله ﷺ يوصي بالنساء عامة وفي آخر وصية له في حجة الوداع على مرأى ومسمع من المسلمين قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». [متفق عليه]. ثم جعل خير الناس خيرهم لأهله، فقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلي». أخرجه الترمذي وابن ماجه.
_ تخصيص يوم لتعليمها وتربيتها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بحَديثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِن نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا ممَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، قالَ: اجْتَمِعْنَ يَومَ كَذَا وَكَذَا فَاجْتَمَعْنَ، فأتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ ممَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ».
_ استشارتها فيما أشكل عليه من أمور مهمة:
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، حين حزن الصحابة لأنهم لم يطوفوا بالبيت ويعتمروا فلم يحلقوا ولم ينحروا هديهم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة أم سلمة فأخبرها، فقالت يا رسول الله احلق شعرك وانحر هديك، فإنك إن فعلت ذلك فعلوا مثلك، فخرج صلى الله عليه وسلم وأخذ بمشورتها، فما كان من المسلمين إلا أن نحروا وحلقوا شعور بعضهم البعض.
_ اللعب معها والصبر عليها وتحمل ما تطلب إن كان في غير معصية:
ومن ذلك اللعب معها وترفيهها وإضحاكها وإدخال السرور إلى قلبها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقف ساترًا عائشة رضي الله عنها بردائه وهي تشاهد الأحباش يلعبون في المسجد الزمن الطويل، وقد سابقها صلى الله عليه وسلم فسبقها وقد كانت سبقته فيما مضى، عن عائشة رضيَ اللَّهُ عنها، أنَّها كانَت معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في سفَرٍ، قالت: «فسابقتُهُ فسبقتُهُ على رجليَّ، فلمَّا حَملتُ اللَّحمَ سابقتُهُ فسبقَني فقالَ: هذِهِ بتلكَ السَّبقةِ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «هذِهِ بتلكَ السَّبقةِ» دليل تجدد اللعب بين الفترة والأخرى ووجود شيء من التنافس، وتبادل روح المرح والمزاح بينه صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه رضي الله عنهن أجمعين.
_ حملها معه في الغزوات والأسفار ما لم يترتب على ذلك مضرة:
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الغزو أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وذلك سواء في غزواته أو أسفاره، فكانت معه عائشة رضي الله عنها يوم غزوة بني المصطلق، وأم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية، ويوم سباقه صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها كان في سفر، قالت عائشة رضي الله عنها: «خَرَجتْ مَعَه في إحدى أسفارِه»، وكانت أم سليم بنت ملحان مع زوجها أبي طلحة وكانت حاملًا بابنها عبد الله بن أبي طلحة.
_ ذكرها بالكلام الطيب في غيابها وبعد مماتها:
عن عائشة رضي الله عنها، قال: «ما غِرْتُ على امْرَأةٍ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما غِرتُ على خَديجةَ؛ وذلك لِما كُنتُ أسمَعُ مِن ذِكْرِه إيَّاها».
_ الإحسان إلى أهلها وأصدقائها إكرامًا لها:
ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها؛ ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة». قال النووي: “وفي هذا الحديث ونحوه دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حيا وميتا، وإكرام معارف ذلك الصاحب”.
_ مشاركتها في الخدمة وأعمال البيت:
كان صلى الله عليه وسلم يشارك أزواجه في أعمال المنزل، فلما سئلت عائشة ربي الله عنها: «مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ». أخرجه البخاري، وفصّلت في رواية أحمد: فقالت: «كان يخيط ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ تَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ».
_ المزاح والضحك معها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: “زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري، والأخرى في حجرها، فعملت له حريرة أو قال: خزيرة، قلت: كلي فأبت، فقلت: لتأكلين أو لألطخن وجهك، فأبت، فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها؛ لتستقيد مني، وقال لها: لطخي وجهها، فأخذت من الصحفة شيئا فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك”.
ويكفيك أيها المجاهد في معرفة إحسانك أو إساءتك عند الله عز وجل إن أديت حق زوجتك أو بخستها، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلي»، أخرجه الترمذي وابن ماجه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا خير خلف لخير سلف، نصون أهلنا وديننا وأعراضنا ومقدساتنا، وأن ينصرنا على أنفسنا وشهواتنا والكفار والشيطان الرجيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ بصيغة BDF اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا