حقيقة الدنيا وهوانها على الله – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٣٠
مجلة بلاغ العدد ٣٠ - ربيع الثاني ١٤٤٣ هـ
الشيخ: رامز أبو المجد الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
قال الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) سورة هود.
وقال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)) سورة الشورى.
وقال الله تعالى: ((يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)) سورة فاطر.
* ذكر الله الحياة الدنيا في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة؛ لبيان حقيقتها وهوانها على الله، وليبين للعباد قيمتها في ميزان الشرع الحنيف.
وجاء في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلا من بعض العالية، والناس كنفته. فمر بجدي أسك ميت. فتناوله فأخذ بأذنه. ثم قال: “أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟” فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء. وما نصنع به؟ قال: “أتحبون أنه لكم؟” قالوا: والله لو كان حيا، كان عيبا فيه؛ لأنه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال: “فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم”. رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء” رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أَلا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلعونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى ومَا وَالَاه، وَعالمًا وَمُتَعلِّمًا” رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
فالدنيا كلها ملعونة إلا ما كان موصلا إلى الله وإلى دار النعيم الآخرة.
* بعض أقوال السلف عن الدنيا:
قال الحسن البصري وغيره رحمهم الله: أدركت أقواما كانت الدنيا عندهم لا تساوي التراب الذي يمشون عليه.
وجاء رجال إلى الإمام الحسن البصري رحمه الله، قالوا: يا إمام، صِف لنا الدنيا، قال: وما تظنون أني قائلٌ بها؟ قالوا: صفها لنا، قال: الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب، قالوا: ما سمعنا أوجز وأبلغ من هذا الوصف.
وعن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله من الآخرة.
وقال رحمه الله: ما يسرني أن لي من أول الدنيا إلى آخرها أنفقه في وجوه البر وأني أغفل عن الله طرفة عين.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر بقائك فيها.
وقال رحمه الله: إن الحديث عز، من أراد به الدنيا فدنيا، ومن أراد به الآخرة فآخرة.
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: لست آمركم بترك الدنيا، آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات والفضائل.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنك لن تنال عمل الآخرة بشيء أفضل من الزهد في الدنيا، وإياك ودناءة الأخلاق.
* كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللهُ غناهُ في قلبِهِ، وجمعَ لَه شملَهُ، وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ، وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ” رواه الترمذي.
* علاقة الإنسان مع الدنيا:
ينقسم الناس في تعاملهم مع الدنيا وعلاقتهم بها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: راغبون في الدنيا مقبلون عليها مشغولون بزخرفها، ألهتهم دنياهم وانشغلوا بها عن آخرتهم.
قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
القسم الثاني: زهدوا في الدنيا وتركوها دون الالتفات إليها وتركوا حظهم منها حتى إنهم لا يقومون بما يلزمهم منها.
القسم الثالث وهو القسم المحمود: أقوام عملوا للدنيا والآخرة وعمروا دنياهم وآخرتهم بما ينفعهم، فإن تعارضت دنياهم مع آخرتهم قدموا الآخرة على الدنيا. قال تعالى عن إبراهيم: ((وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)) سورة العنكبوت.
وقال تعالى عن موسى وقومه: ((وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)) سورة الأعراف.
وقال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) سورة البقرة.
قال الشيخ عبد العزيز الطريفي فرج الله عنه: حافظ على دينك ودنياك معا، وإذا تضادا فعبّد طريق دينك بدنياك وسِر إلى الله.
* اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
لتحميل نسختك من العدد 30 من مجلة بلاغ اضغط هنا
لقراءة باقي المقالات اضغط هنا