جولاني شاه مسعود – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٥٩ – رمضان ١٤٤٥ هـ – March 19, 2024
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
علقت في ذاكرتي قصةٌ قصيرةٌ معبرةٌ من كتبها قال أنها حدثت واقعاً مع مهندس زراعي مصري جلس بجانب رجل صعيدي عجوز متوجه إلى القاهرة بالقطار، كان أمام العجوز كيسٌ يقلبه كل ربع ساعة، دفع الفضول المهندس إلى السؤال عن محتوى الكيس وسبب تقليبه، فكان جواب الفلاح العجوز مبهراً للمهندس الزراعي، قال له: هذه فئران أبيعها لمختبر تجارب، وأقلب الكيس كل ربع ساعة لأشغلها ببعضها، فإنها إن استقرت وحازت أماكنها بدأت تقرض الكيس وتحررت منه، لذلك وجب التقليب.
هذه الاستراتيجية التي يعتمدها الفلاح البسيط، هي الاستراتيجية التي يعتمدها النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، للسيطرة عالمياً، وفق سياسة ملء الفراغ والاحتواء والإلهاء، التي تجعل حتى أعداء النظام الدولي وظيفيين في حركة هذا النظام واستقراره، وهذا ليس اعترافا بسيطرة هذا النظام التامة ولا إقراراً بعدم القدرة على مواجهة الخطة، لكنها قراءةٌ للذي يحدث، وبحثٌ في الطرق التي يسلكها ساسة الدول الكبرى لتعطيل الأمم والشعوب.
إن الإشغال والإلهاء الذي يعتمد عليه النظام الدولي الحديث في توهين الأمم والشعوب، يبدأ من أصغر دائرة مناطقية أو إقليمية، ولا يسمح بوجود فراغ في أي مكان، وهذه السياسة تطبقها الدول حسب استطاعتها لإضعاف غيرها من قريب أو بعيد، ولذلك تستعمل الضد النوعي الذي يشابه المستهدف ويحاربه بأسلوبه وعلى أرضه، لتكون محصلة النشاط البشري فيها صفر أو أقل، فإن كانت أكثر من صفر يكون هناك ضد نوعي على مستوى الدولة ثم الإقليم، حتى تكون محصلة النشاط في الاتجاه الدولي صفر أو أقل، وهذه الدول تتمسك بالضد النوعي وتستعمله، إذ أن إيجاد الضد الذي يؤدي وظيفته على الوجه المطلوب ليس بالأمر اليسير، أما بقاء الضد وإن كان ضعيفاً أو هامشياً يجعل الباب مفتوحا دائماً للعب به.
هل تابعتم صراعات في مناطق أو دول، ورأيتم كيف تمد الدول الكبرى يد العون أو طوق النجاة لأشخاصٍ أو جماعاتٍ لتستمر، مهما كان توجهها، المهم أن تكون أداة مناكفةٍ وتشويش، وهل تعجبتم من وجود مرجعيات أو منتسبي بعض التيارات والجماعات في دول الغرب ويتقاضون رواتب إعانات لاجئ منها، ويتكلمون بما يشاؤون من تكفيرٍ وتحريضٍ ومساهمةٍ في صراعاتٍ بعيدة عنهم آلاف الكيلومترات؟، إن هذا مدروس في مراكز أبحاث عملاقة ومقصود كي يحقق نتيجة الاحتواء والإلهاء العامة.
أحمد شاه مسعود أو “أسد بنجشير” أو “فاتح كابل”، شارك مع المجاهدين الأفغان في قتال الاتحاد السوفيتي وكان من أشجعهم والأشهر بينهم، انضم إلى الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني عندما كان طالباً في جامعة كابل، وبعد التحرير أصبح وزيراً للدفاع ثم نائباً للرئيس تحت رئاسة رباني، وعندما سيطرت طالبان تقهقر وجمع الفرقاء المعارضين لطالبان تحت اسم تحالف الشمال بقيادته وبدعم من الدول الغربية، وبقي يؤدي دور الإلهاء والتعطيل الذي يريده النظام الدولي ضد الإمارة الإسلامية في أفغانستان، حتى وقت اغتياله عام 2001، وبعد مدة قصيرة شارك أتباعه مع قوات الناتو في قتال طالبان واحتلال أفغانستان، وتولى ابنه الذي يحمل اسمه ذات المهمة بعد سنوات من الإعداد في مدارس الغرب، إلى أن كتب الله النصر ودحرته طالبان من أفغانستان فتوجه إلى إيران وفرنسا وغيرها من دول يتنقل طلباً للدعم، واحتضنه الغرب كمحرك فتنة يمكن إعادة تقويته وإرساله للتخريب في الفرصة المناسبة.
أحمد شاه مسعود نموذجٌ ومثالٌ عن الكثير من الشخصياتِ والجماعاتِ والفصائل والتنظيمات والأحزاب التي تتقلب في التوجهات وفق المصلحيَّة الخاصة، وتدخل تحت أعداء الأمة لتحقق مصالحهم ومصالحها الضيقة أو جزء منها، فتاتٌ دني ترضى به، حتى تنظيم الدولة “داعش” الذي سمح النظام الدولي بتمدده ليسحب الجهاديين المنتشرين عالمياً ويفتنهم ويجتمعوا في أكبر فخٍّ ومحرقةٍ جماعيّةٍ في التاريخ ربما، لم تقضِ الدول الكبرى عليه تماماً بل سمحت له بمتنفس في الاتجاه المصلحيِّ الذي تريده هي، وكلما خرج عن السياق تقلم أظافره، تحتويه وتحتوي به، تلهيه وتلهي به، وهذا في الغالب ما سيكون في حال استطاع الثوار والمجاهدون خلعَ الجولاني وعصابته واستعادة قرار ومسار الثور السورية.
غنيٌّ عن البيان الكم الكبير من الجرائم التي ارتكبها الجولاني خلال أكثر من عقد من الزمن، وكيف كان الأداة الأبرز في تعطيل الثورة السورية وإشغالها في صراعاتٍ بَينِيَّةٍ، وتدمير فصائلَ قويةٍ، وتسليم مناطقَ واسعةٍ، مقابل حيازة سلطةٍ وهمية في مربع مسموحٍ به دولياً، ليؤدي وظيفة احتواء أهل السنة ومنعهم من استعادة أرضهم وحكم بلدهم، وهو ومن معه يفهمون هذا الدور الوظيفي ويؤدونه بعنايةٍ لتحقيق مصلحة بقائهم، يغلفونها بشعاراتٍ كاذبةٍ عن مصالح الأمة وطموحاتها.
الجولاني الذي بدأ خط إشغاله للثورة وأهلها منذ دخل الشام، وصل إلى مرحلة استبداديةٍ احتكاريةٍ إجراميةٍ سافرةٍ، وفي نفس الوقت كاذبةٍ مزورةٍ للحقائق، لا يمكن أن يبقى فيها دون صدامٍ مع أهل الأرض، وأصحاب الحق في إدارة الثورة وتوجيهها في مسارها الصحيح، وبسبب إصراره على القيام بالجرائم كلها التي قام بها النظام المجرم الذي ثاروا عليه، كان لا بد من قيام ثورةٍ ضد الجولاني ومن معه، تقتلعه كما اقتلعت من سبقه، لكن هل تتخلى الدول المستفيدة من دوره عنه بهذه السهولة؟!
الولايات المتحدة التي لعبت دوراً أساسياً مفضوحاً في منع إسقاط بشار الأسد لأنه يحمي مصالحها ومصالح ربيبتها في المنطقة، قال مبعوثها أن هيئة تحرير الشام مصدر قوة استراتيجية للولايات المتحدة في إدلب، وهل تحتاج الولايات المتحدة إلى فصيلٍ عسكريٍّ لا يستطيع حماية الأرض التي يدعي السيطرة عليها، إلا بمساعدة فصائل أخرى والدولة التركية، أم أنه يحقق مصالح أخرى للولايات المتحدة وبالتالي النظام الدولي الحالي!.
تقديري أن من حمى بشار الأسد من السقوط سيسعى الى حماية الجولاني من السقوط، لأنهما يؤديان دوراً متكاملاً في القضاء على فاعلية أهل السنة في الشام، وجعلها تحت الصفر بأرقام ومراحل، وربما تكون مساعدة الدول للجولاني في تخطي الأزمة التي وقع فيها عن طريق قصف المنطقة أو التهديد بعمل عسكري عليها، حيث ينتظر النظام المجرم والمحتل الإيراني والروسي أي فرصة للقيام بهذا، في الغالب يقوم الجولاني ذاته بإعطائهم الذريعة لذلك، أو يساعدونه بأي طريقة أخرى، وبالطبع يكون ذلك مقابل خدمات يؤديها.
وفي حال استطاع الثوار والمجاهدون إزاحة الجولاني وإنهاء سيطرته، سيأخذ دور الفصيل المعطل كما كان يفعل أيام جبهة النصرة، وفي حال استطاعوا منعه من البقاء كزعيم فصيلٍ ولم يستطيعوا محاكمته أو قتله، ستحتضنه دولة ما وتقدم له المأوى والخدمات كما فعلت مع غيره مهما كان مصنفاً ومهما طالب الثائرون بتسليمه، فهو وإن بقي فرداً سيكون له أدواتٌ ومحبون مخربون في الداخل.
لذلك وجب على الثورة ضد الجولاني أن تكون ثورة لا نصف ثورة، ويجب أن يكون السعي إلى الخلاص منه نهائياً، فهو أكثر أداة تعطيل استغلها أعداء الثورة، ولن يكون للثورة شأن إن بقي، ولا يتعجب أحد في حال حُوصر الجولاني ولم يبقَ له خيارات متاحة أن يقفز إلى حضن النظام المجرم ذاته، لكن هذا آخر ما يُسمح له به، فالنظام الدولي يتدرج في علاج المشاكل التي تأتيه من قبل الشعوب ولا يتنازل عن أدواته بسهولة، ولا يكشف أوراق العملاء أمام الشعوب إلا بعد انتهاء مهمتهم تماماً وانعدام فرص استمرارهم.
في هذا المقال لا أطرح فكرة تعجيزية ولا تشاؤمية، لكنني أوضح طبيعة الدور الذي يقوم به العميل، الذي هو موظف كعميل منذ البداية أو قدم أوراق اعتماده مع تطور مصلحيته، وبالتأكيد يجب على من يجابهه أن يكون واعياً لطبيعة دوره، واحتمالات مساعدة مشغليه أو المستفيدين منه له، ومن يعي هذا ويقرأ تاريخ هؤلاء الأمثال والأشباه، عليه أن يقضي على السرطان نهائيا لا يألو جهداً في ذلك، وأن يتحمل كل الأعراض القاسية أو المفاجئة أثناء العلاج، وذلك في سبيل الخلاص من هذا الداء نهائياً، فإنه إن عاد عاد أقوى وأكثر إيذاءً وقدرةً على الاستمرار، والجسد يكون أضعف وأقل قدرةً على المقاومة، من يعي هذا عليه ألا يقصر في واجباته، فالأجيال تتعاقب وتحاكم بعضها في الدنيا والآخرة.