تربية القدر.. مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الشيخ: المنصور بالله الحلبي
أرادوا العير وقضى الله النفير، والتقى الفريقان على غير ميعاد ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا، فهبّت نسائم النصر، وانكشفت الغيوم عن فجر الإسلام، وظهرت المنة الإلهية والعطية الربانية لخير جيل عرفه التاريخ، وأُسدل الستار على موقعة كانت تاجًا على رأس الزمان..
ولكن دبّ شيءٌ من الخلاف بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وسببه الغنائم وتقسيمها، والأنفال وحيازتها، وكلٌّ يريد أخذها، فجاء الفصل الرباني والقول الحق ليحل المشكلة، ويرد الفضل لصاحب الفضل، ويذكرهم بنعمته عليهم إذ نصرهم وهم أذلّة، وأمدهم بجنده وآواهم بنصره فقال لهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، ولما ثابوا للحق واستسلموا لله تعالى منحهم الغني الكريم الغنائم وفق أنصبة معيّنة..
ودارت سنةٌ كاملةٌ أو زادت شهرًا حتى لاح في الأفق رايات معركة أحد، وانطلق الجيش ليلاقي العدو، وتم تنظيم الجيش وسد الثغور وأرسل كتيبةً مؤلفةً من خمسين رجلًا ليصعدوا الجبل الذي سُمي باسمهم فيما بعد “جبل الرماة”.
وأعطاهم أوامر صريحةً لا لبس فيها ولا تأويل:
[إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم]
وانطلق شرار المعركة وحمي الوطيس وانكسر النصال على النصال، وظن الرماة أن النصر قد أقبل والهزيمة قد أدبرت والنتيجة واحدة بين بدر وأحد..
وهنا وقعت المصيبة إذ نزل الرماة مخالفين أمر القائد والرسول عليه الصلاة والسلام.
ولا تفكر كثيرًا في سبب فعل الرماة، فهو نفسه سبب الاختلاف في بدر؛ الغنائم..
وتبدل الحال وتغير المآل فالتف جيش المشركين على الصحابة واستحر القتل بأولئك الجيل الفريد، فاستشهد منهم ما يزيد على السبعين وجُرح وجه نبينا صلى الله عليه وسلم.
نعم السبب واحد ولكن النتيجة مختلفةٌ تمامًا، والفاتورة المدفوعة باهظةٌ جدًا، وبقيت أحد محفورةً في عقول ونفوس الصحابة لا يمحوها حدث ولا يطمسها إلا الجَدَث!!
فالرماة خالفوا الأمر الشرعي فجاء الأمر القدري فقهر النفوس ولم يستطع أحد مقاومته..
وهكذا تجري السنن على مدار الأيام..
تأتي الأوامر الشرعية فيتركها العبد ويعرض عنها مرارًا فيأفجؤه القدر المحتوم الذي لا مفر منه..
وإليك أمثلةً لذلك..
قال تعالى:
{قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ۖ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا ۖ وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16].
تهدد الأعراب إذا تخلفوا عن المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بأنهم سيقاتلون أقوامًا أشد بأسًا وأقوى شكيمةً من أهل مكة المشركين..
واختلف المفسرون في تفسير {أُولِي بَأْسٍ} أهم الروم أم أهل الطائف أم غيرهم.
وهذه الأندلس قد انقسمت بين ملوك الطوائف، فلكل بقعةٍ سيدها، لم يتوحدوا ولم يتنازلوا لبعضهم بعضًا فابتلاهم الله بمجيء الإسبان فوحدوهم جميعًا حين أخرجوهم من الأندلس، جنة الدنيا ورمز الجمال.
وخذ صورةً أخرى من معرض التاريخ..
عندما ترك الناس الجهاد ضنًّا بالدنيا وحرصًا عليها وإيثارًا للسلامة ابتلاهم الله باستعباد الحكام الظلمة والأمراء الطغاة فأذهبوا دنياهم وآخرتهم!!
وحين نتخلى عن مبادئنا ونذل لأعدائنا طمعًا بمحبتهم وهربًا من عداوتهم ابتلانا الله بقتالهم أو بأعداء أشد منهم ودفعنا أضعافًا مضاعفةً.
فالجزاء من جنس العمل
ومن ترك الأمر الشرعي قهره الأمر القدري.