الغزو في البحر _ الركن الدعوي _ مجلة بلاغ العدد الرابع والثلاثون ⁨شعبان ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد ٣٤ - شعبان - ١٤٤٣

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛

فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل له مراحل ومراتب وأنواع تقدر بقدرها، ولذا يعد المسلمون كل ما يستطيعون في سبيل تحقيق مقاصد الجهاد، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، ومن القوةِ القوةُ البحرية والغزو في البحر، تلك البحار التي هي نعمة من الله جل وعلا سخرها للبشر ليبتغوا من فضله، كما قال تعالى: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ولذا فقد أخذت الأمة الإسلامية بنصيب وافر من تلك القوة المهمة التي هي ركن أساس من أركان القتال؛ فكان الجهاد في البحر أحد أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى.

 

* فضل الجهاد في البحر:

– عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: “كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ»، قُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ، مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ: مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ»، فَرَكِبَتِ البَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَتْ” أخرجه البخاري..

 

– وعن أم حرام رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» رواه أبو داود، فإذا كان للمتقيئ أجر شهيد، وللغريق أجر شهيدين، وهو مسافر أو تاجر أو عامل أو صاحب سفينة، فكيف بالمجاهد الذي لم يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد جمع مع مشقة السفر في البحر مشقة الجهاد والقتال وحمل السلاح، وتحمل كل هذه المشقة لأجل دين الله وإعلاء كلمته ونصرة شريعته..، قال ابن النحاس في مشارع الأشواق: “إذا كان المائد في البحر كالشهيد في البر فكيف يكون الشهيد فيه؟..، قال صاحب المغني وغيره من أصحاب الإمام أحمد: غزو البحر أفضل من غزو البر؛ لأن البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه، فكان أفضل من غيره..، قال المؤلف: وينبغي أن لا يكون في هذا خلاف لما تقدم في فضله من الأحاديث الحسان وغيرها”.

– وقد استجد في هذا العصر الجهاد في الجو بالطيران، فهل يلحق فضله بفضل الجهاد في البحر بجامع الخطر والخوف والاضطراب والميلان؟ نترك الإجابة على ذلك لأهل العلم.

* الغزوات البحرية:

رغم أن الجهاد في العصر النبوي كان في الجزيرة العربية وصحرائها ورمالها إلا أن عموم الرسالة كان يعني أنه سيأتي يوم يمتد فيه الجهاد إلى ما وراء البحار، ولذا ورد الخبر النبوي عن المجاهدين الذين يركبون البحر في سبيل الله، وهذا ما فعله الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين، فما إن بسط الإسلام جناحيه على الجزيرة العربية، حتى توجهوا نحو الشام والعراق ثم مصر ثم بلاد المغرب، لتبدأ جيوش المسلمين بالتوجه شمالًا نحو القسطنطينية وغربًا نحو بلاد الأندلس قاطعين الفيافي خائضين البحار ينشرون دين الله عز وجل، فوقعت كثير من الغزوات البحرية الشهيرة التي غيرت مجرى الأحداث على مدى التاريخ الإسلامي؛ حيث كانت هذه المعارك امتدادًا للغزوات البرية مكملة لها، وخط دفاع عن بلاد المسلمين وخط فتح ونصر وتمكين.

وقد كان الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أول قائد عسكري مسلم أراد الغزو في البحر لكن رأى الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأجيل ذلك واستكمال الغزو البري خوفا على المسلمين من تجربة دخول ميدان جديد عليهم؛ لتبدأ تلك الغزوات البحرية في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنهما؛ فهيمن المسلمون على البحر الأبيض المتوسط كاملا ثم جاوزوه حتى فتحوا الأندلس “في بلاد أوربا اليوم” لا يوقف تقدمهم بر ولا بحر ولا واد ولا جبل..، ومن أهم الغزوات البحرية في صدر الإسلام:

– غزوة قبرص عام 28 هـ: قادها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وهي أول غزوة بحرية للمسلمين، في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وكان ممن حضر هذه الغزوة الصحابية الجليلة أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، وهي الصحابية التي بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو في البحر؛ حيث استشهدت في تلك الغزوة.

– غزوة ذات الصواري عام 34هـ: وهي من أقوى الغزوات البحرية للمسلمين؛ حيث كُسرت الروم في هذه الغزوة، فأصبح المسلمون هم المسيطرين على كامل البحر الأبيض المتوسط بعد أن كان مستباحًا من قبل الروم.

– غزوة الأشراف عام 85 هـ: وسميت بذلك لكثرة من كان فيها من أشراف العرب، وفيها أغار المسلمون على صقلية وغنموا كثيرا من المال؛ حيث بلغ سهم الرجل الواحد في هذه الغزوة مائة دينار ذهباً، وكان المسلمون ما بين الألف إلى التسعمائة.

– غزوة فتح الأندلس في رجب عام 92 هـ: بقيادة طارق بن زياد، وكانت معركته المعركة الأهم والأقوى في فتح بلاد أوربا وبسط هيبة الإسلام داخلها، وما يزال المضيق بين المغرب وإسبانيا يسمى باسمه “مضيق جبل طارق”.

– غزوة وادي لكه: في رمضان 92 هـ، بقيادة طارق بن زياد كذلك، وهي من ضمن معاركه في إتمام فتح بلاد الأندلس.

* وقد أصبحت الأساطيل البحرية ركنا أساسيا في التجهيز العسكري في العصور التالية، وهي اليوم من أهم القطع العسكرية في الدول؛ حيث تنقل السفن الجيوش والطائرات والأسلحة والذخائر عبر السفن الضخمة جدا، وكذلك تسير أكثر الحركة التجارية العالمية في البحار، وكثيرا ما ظهرت في أماكن من العالم ظاهرة القراصنة البحريين، واستخدم المحتل الروسي البحر في نقل آلته العسكرية إلى بلاد الشام عبر ميناء طرطوس البحري، مما يستوجب العناية بالجهاد البحري ردعا للغزاة المحتلين.

أسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يهيئ لهم رجالًا أشداء أقوياء لا تلهيهم تجارة ولا بيع ولا لعاعة من الدنيا، فيعيدون للإسلام عزه وهيبته وسلطانه، وينشرونه برًا وبحرًا وجوًا، لا يوقفهم حجرٌ ولا شجرٌ ولا بحرٌ، يقيمون حدوده ويرفعون رايته وينصرون شرعته في كل زمان ومكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والحمد لله رب العالمين..

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٤ شعبان ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى