الشورى في الجهاد الشيخ – الركن الدعوي -مجلة بلاغ العدد ٢٦ – ذو الحجة ١٤٤٢ هــ

الشيخ: أبو حمزة الكردي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

* معنى الشورى:

هي عرض المعضلة على الذين عرفوا بالتجربة العملية والرأي السديد، وسماع الآراء المتعددة، واستخلاص الحل المناسب لتلك المعضلة من تلك الآراء المعروضة.

* فضلها:

لعلو مكانة الشورى ورفعتها أُمِرَ بها النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)، وسميت سورة من القرآن بها، وذكرها الله عز وجل في نفس السورة حين عدد صفات عباده المؤمنين بين أعظم ركنين من أركان الإسلام؛ الصلاة والزكاة، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).

والواجب على المسلمين قبول الدين كاملا، كتاب وسنة وشورى وقياس وإجماع، يقول تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) وحكم الإسلام هو كتاب وسنة ثم شورى فيما أشكل على المسلمين في ضوء الكتاب والسنة، فيكمل الالتزام الدين بكمالها وينقص بنقصانها.

والشورى في كل أمر لم يأت به نص؛ تكون من أهل الحل والعقد والاختصاص والفهم لتجتهد فيه على ضوء من القرآن والسنة، بعيدا عن الديمقراطية والبرجوازية والرأسمالية والعلمانية؛ لتقرر الأنفع والأصلح للمسلمين، لأن الأصل في حياة المسلمين أن يحكمهم الإسلام نص قرآني أو حديث نبوي أو ما انبنى عليهما من فعل صحابي أو قياس وما شابه ذلك، وبذلك تضبط أمور حياتهم فيحدد الحرام من الحلال، ثم تأتي الشورى تفصل في اختيار أمر من الأمور المشروعة لمصلحة اعتبرها الشرع، فتكون بذلك حياتهم قائمة على منهاج رب العالمين وعلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا بد لهذه الشورى من أهل حل وعقد واختصاص وحكمة يتشاورون فيما بينهم، شورى حقيقية لا شورى صورية، شورى لا استبداد، خاصة في الأمور الحساسة والتي تحتاج للاجتهاد خاصة مع بعد نظر، ومعرفة الأصلح من الصالح، والأحسن من الحسن.

ومن أهم ما وجب على المسلمين التشاور فيه هو أمر الجهاد في سبيل الله عز وجل والمسائل المتعلقة به والمترتبة عليه، لما يترتب على أمر الجهاد من إهراق دماء وبذل أموال وهتك أعراض وتعرضٍ لمواطن الفتنة والقتل والأسر والنزوح والتشرد.

* فوائد الشورى:

يقول السعدي رحمه الله: “في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره؛ منها:

– أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.

– ومنها: أن فيها تسميحا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث، فإن من له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه، وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

– ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

– ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا، وأغزرهم علما، وأفضلهم رأيا: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فكيف بغيره؟!”.

 

* نماذج من مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه من أهل الغزو والحروب في غزواته وقراراته العسكرية ما لم يكن هناك وحي يقطع في الأمر؛ كما حصل في غزوة بدر وأحد وحمراء الأسد والخندق والحديبية وخيبر وحنين وتبوك وغيرها كثير.

– غزوة بدر:

قبل وقوع غزوة بدر الكبرى بأيام وبعد أن أفلتت قافلة قريش التجارية العائدة من الشام تجهزت قريش لحرب المسلمين، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه الذين خرجوا معه لملاقاة القافلة فقال: “أشيروا علي أيها الناس” وجعل يكررها بين أصحابه حتى يسمع آراءهم كبارا وصغارا مهاجرين وأنصارا، في أن يحارب قريشا أو أن يعود قافلا إلى المدينة.

وبعد أن أخذ جيش المسلمين في تجهيز معسكرهم وخيامهم يعود صلى الله عليه وسلم ليقول لأصحابه: “أشيروا علي في المنزل” فيشير عليه الصحابي الجليل “الحباب بن المنذر بن الجموح” أن يغير المكان إلى مكان أفضل وفيه مياه أغزر وأعذب ما لم يكن هناك وحي يحدد المكان، فيمتدحه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: “لقد أشرت بالرأي“.

– يوم أحد:

أما في غزوة أحد وبعد أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بخروج المشركين تجاه المدينة جمع المسلمين في المسجد قبل صلاة الجمعة، وقال لهم: “أشيروا علي” وما أكثر ما كان يردد صلى الله عليه وسلم “أشيروا علي“، وهو خير المرسلين، المؤيد من رب العالمين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم ورأي أكابر الصحابة رضي الله عنهم البقاء في المدينة والقتال في أزقتها، فقام سعد بن عبادة وحمزة بن عبد المطلب وخيثمة أبو سعد بن خيثمة وإياس بن أوس بن عتيك وأشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال خارج المدينة خشية أن تظن قريش أن المسلمين خائفون منهم فيتجرؤوا عليهم في القتال، وإن كانت الهزيمة على المسلمين لم يستطع المشركون أن يقتربوا من النساء والأطفال لبعدهم عن المدينة، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالخروج من المدينة، مع أن هذا الرأي مخالف لرأيه صلى الله عليه وسلم، عندما رأى أن الغالبية من شورى المسلمين تفضل الخروج للقتال خارج المدينة على القتال داخلها؛ فأنزل الله عز وجل آية تتحدث عن الواقعة وما حصل فيها من شورى أدت للعمل بالرأي المرجوح، ورغم ما حصل في المعركة من مصاب في صفوف المسلمين، فقد أمرت الآية بالمشورة وألا يكون ما حصل سببا للبعد عن الشورى، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

– يوم الخندق:

يجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين يوم الأحزاب ليشاورهم في مكان المعركة وموضع تمركز الجيش بين البقاء في المدينة أو الخروج منها، فاختلفوا، فقال سلمان الفارسي: “يا رسول الله إنا إذ كنا بأرض فارس، وتخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخندق؟” فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون برأيه، فانتدب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى حفر الخندق حول المدينة، وكان هو على رأسهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يعمل معهم فيحفر مثلهم ويتعب ويجوع ضعفهم.

– يوم الحديبية:

أما يوم الحديبية فيجمع النبي صلى الله عليه وسلم من خرج معه للعمرة ولم يكونوا قد خرجوا لغزو أو قتال، فيقول لهم مستشيرا: “كيف ترون يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين استنفروا إلى من أطاعهم ليصدونا عن المسجد الحرام؟ أترون أن نمضي لوجهنا إلى البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه، أم ترون أن نخلف هؤلاء الذين استنفروا لنا إلى أهليهم فنصيبهم؟ فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنق يقطعها الله، وإن قعدوا قعدوا محزونين موتورين، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: الله ورسوله أعلم، نرى يا رسول الله أن نمضي لوجهنا فمن صدنا عن البيت قاتلناه“.

– وتوجد مواقف كثيرة شبيهة لتلك الأمثلة؛ مثل المشورة حول أسرى بدر، وحول إعطاء ثلث ثمار المدينة لغطفان يوم الخندق، ومشورة أم سلمة يوم الحديبية، ومشورة التوقف عن القتال يوم الطائف، والمشورة في أسرى هوازن، لذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: “لم أر أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

ختامًا:

يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) فلا بد لنا من الشورى اقتداء وتأسيا به صلى الله عليه وسلم في جميع أنماط حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والجهادية، خاصة في الأمور التي تتعلق بأمور المسلمين العامة ودينهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، والتي قد تكون سببا في ضياعها أو حفظها؛ ما لم يكن هناك وحي من قرآن أو حديث يقطع في المسألة، وقد ورد في الحكمة: “ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار”..

نسأل الله عز وجل السداد في القول والعمل، وأن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، وأن نكون خير خلف لخير سلف، نحافظ على ما قدموه لنا من تضحيات جسام؛ بحسن تدبيرنا وصدقنا وعلمنا ومشورتنا لإخواننا المسلمين في كل مكان، وصدق توكلنا على الله عز وجل مع الأخذ بالأسباب الشرعية كافة.

والحمد لله رب العالمين.

لتحميل نسخة من المجلة يمكنك الضغط هنا  

لقراءة باقي المقالات يمكنك الضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى