الشهوة أصل الشبهة | الركن الدعوي | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
الشهوة أصل الشبهة
الشيخ: أبو اليقظان محمد ناجي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الشهوة أصل الشبهة ومبدؤها ومنبعها؛ والشهوات مداد الشبهات وسُقياها؛ فحيثما وجدت الشهوة نبتت الشبهة، وكلما قويت الشهوة استعرت الشبهة؛ فإذا أسَرَت الشهواتُ القلبَ ألقته في سجن الشبهات، ومن عصم جوارحه عن محرمات الشهوات سَلِم قلبُه من اعتقاد الشُّبهات.
الشهوات فسادٌ في الإرادة العملية فهي مرض عملي، أما الشبهات فهي فسادٌ في القوة العلمية النظرية فهي مرضٌ علمي؛ فمن قويت إرادته ضعفت شهوته، ومن قويت معرفته بربه تلاشت شبهته.
وأمراض الشهوات في العمل كالزنا بسبب شهوة النساء، والسرقة بسبب شهوة المال، والبغي في الأرض وظلم الناس بسبب شهوة العلو والفساد، وأما أمراض الشبهات فهي في العلم من الشك والريبة وربما يصل بصاحبه إلى الإلحاد والزندقة.
هذه الشهوات البهيمية التي تجعل الإنسان كالأنعام، والشهوات الشيطانية التي تجعله أضل من الأنعام {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
الشهوات البهيمية من شهوة البطن والفرج وحب المال ضبطتها الشريعة الغرّاء بما يوافق الطبيعة البشرية فأباح الله لعباده قدرًا منها في هذه الحياة الدنيا خالصةً لهم في الآخرة {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، وبهذا التشريع الرباني سما الإنسان على غيره وكُرِّم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، أما أمراض إبليس من الشهوات الشيطانية فقد حرّمها الله عز وجل؛ مثل إرادة العلو والفساد والكِبر والعُجب وغيرها.
ومن تأمل القدْر والجهد والمال الذي ينفقه الكفار والمنافقون على إثارة الشهوات وقارنه بما ينفقونه على بث الشبهات علِمَ يقينا حقيقة الصراع ورأى عن قرب طبيعة المعركة.
تأمل هذه الهجمة الشرسة لإثارة الشهوات بالأغنية الماجنة وأفلام الإثارة وانتشار أماكن اللهو وانفتاح الفضائيات والمواقع الإباحية والبرامج الماجنة على الشبكة العنكبوتية من وي تشات وسناب شات وتيك توك ولايكي فضلًا عن برامج فيها بعض الخير وإثمها أكبر من نفعها مثل انستجرام ويوتيوب وتويتر وفيس بوك، مع إشغال المسلمين عن دينهم وشعائرهم بالتنافس على السلطة والصراع لتحصيل المال؛ حتى إذا تمكنت شهوات الدنيا من قلوبهم وغرقوا في مستنقع الشهوات سهل عليهم تشكيكهم في دينهم وإسقاطهم في ظلمات الزندقة والإلحاد؛ فكيف ينصر الإسلام شاب غارق في أوحال الشهوات؟! وهل ستحدثه نفسه بالغزو في سبيل الله وهو يقارع نزواته المحرمة؟!
والله عز وجل يقول: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}؛ قال الراغب: “الميل وإن كان عاما في الميل إلى الخير والشر، فالمقصود به ههنا الجور عن قصد السبيل، ولما كان جميع عبادة الله بالقول المجمل ضربين، صقل العقل، وقمع الشهوة، وكل أمر ونهي فذريعة إليهما، صار اتباع الشهوة سبب كل مذمة، فلذلك عبر بمتبع الشهوات عن الفاسق والكافر، وعلى هذا قوله: {أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]”. [الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية].
تلك الشهوة هي أصل الشبهة فإذا سَلِم القلبُ من الشهوة زالت الشبهة؛ فالشبهة ما هي إلا ذريعة للوصول إلى تلك الشهوات، فيترك المنتكس المفتون سلامة المنهج بحثا عن منهج السلامة إشباعًا لشهواته.
فشهوة البقاء والحرص على منهج السلامة والخوف من السجون هو الذي دفع حزب النور السَلفي لمناصرة الانقلاب العسكري في مصر ولكنهم يتعذرون بالشبهات كالحفاظ على الأنشطة الدعوية والخوف من الدخول في نفقٍ مظلم من الصراعات، والواقع يُكَّذِب دعواهم فقد دخلت مصر نفقا مظلما ولم يُبقِ الانقلابُ دعوةً ولا مشائخ ولا حقوقا للناس.
وشهوة البقاء والحرص على الشهرة ومنهج السلامة والخوف من الإسقاط والتصنيف والملاحقات الأمنية والاستهدافات العسكرية هو الذي دفع كثيرا من المشايخ والدعاة والقيادات الإصلاحية لترك الصدع بالحق ومناصرة المظلومين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكنهم بالطبع سيتعذرون بالشبهات مثل مصلحة الاستمرار في الدعوة والإصلاح من الداخل ونصيحة المسؤولين سرًا، والواقع يُكذب دعواهم فقد ضيعوا الدعوة وشتتوا شباب الأمة ونسفوا الثوابت والأصول؛ فلم يصلحوا فسادا ولم يرفعوا ظلما وإنما حافظوا على مصالحهم الشخصية ومناصبهم الزائلة.
تملكهم حب الحظوظ وشهوة النفوس فقل يا رب عاف من الفتن.
فأين أولو التقوى وأين أولو النهى وأين أولو الإيقان والعلم والفطن.
وهكذا إذا تأملت أي شبهة فستجد أن أصلها الشهوة؛ ولكن المفتون بالشهوات يُلبسها لباس الشبهات، فكل من ترك واجبا أو ارتكب محرما فإن دافعه لذلك هو إشباع رغباته وتحقيق شهواته ولكن كثيرا منهم يتعذرون بالشبهات المزعومة.
فالجد بن قيس لم يصرح بشهوة البقاء في ماله مع زوجته وأولاده ولم يُفصح عن خوفه من القتل في سبيل الله بل ساق شبهةً ليواري بها سوءة شهوته؛ {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} ففضحته سورة التوبة الفاضحة {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].
والفراعنة يعلمون صدق الرسل وأتباعهم من المصلحين؛ {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، ولكنها شهوة الملك وحب الرياسة التي تُساق دائما في ثوب الشبهات؛ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص: 38].
يقول الشيخ الطريفي:
“والأصل في الشبهات أنها تنشأ في القلوب بسبب الشهوات، ولو لم يكن في القلب ولا في النفوس شهوات ما نشأت الشبهات؛ لأن الإنسان يسعى إلى تحقيق وبناء الشبهة تحقيقاً وإشباعاً للشهوة في نفسه، ولو لم يكن في الإنسان شهوة السمع، ولا شهوة البصر، ولا شهوة السيادة والريادة والجاه، ولا شهوة الفرج، ولا شهوة المأكل، فإنه لا يكون في الناس شبهات، ولهذا إذا وجدت الشهوات فإنه ينشأ عليها الشبهات، فيأتون حينئذٍ يتذرعون، لأجل أن يصل إلى مأكل، إلى مشرب، إلى منكح، إلى ملبس، إلى جاه، أو سيادة، أو غير ذلك، ولكن لو كانت هذه الغايات معدومة ما وجدت حينئذٍ الشبهات، وهذا أمر ملموس حتى في الناس، فتجد أن الإنسان إذا كان قوي الشهوة ضعيف الإيمان، وجدت لديه الشبهة، وإذا كان ضعيف الشهوة ولو كان ضعيف الإيمان، تضعف لديه الشبهات، ولهذا الشبهات ضعيفة عند كبار السن، قوية عند الشباب؛ لقوة الشهوات، وإذا كبر الإنسان ومرض زالت الشهوات؛ فزالت الشبهات وتاب الإنسان منها، والسبب في ذلك أن الشهوة لدى الإنسان ضعيفة. وتجد الإنسان على فكر وعلى شبهة، فإذا كبر سنه وقرب من الموت زالت الشهوة وضعفت حينئذٍ الشبهة، ولهذا فإن أكثر الذين يتوبون من الشهوات التي توطنت في قلوبهم إنما يتوبون بعد زوال الشهوات، ويظهر هذا في أمرين: الأمر الأول: في كبر السن والهرم. الثاني: في المرض والسقم الذي لا يرجى برؤه. فإذا كان الإنسان صاحب شبهات بنيت على شهوات، ثم أصيب بمرض خطير لا يرجى برؤه فإنه يتوب مما كان عليه من آراء؛ لأن قاعدة الشبهات هي الشهوات، فزالت تلك القاعدة، فحينئذٍ انهار ما عليها، وهذا أمر معلوم في كثير من أرباب الآراء من أهل الشبهات والشهوات”. [تفسير آيات الأحكام – عبد العزيز بن مرزوق الطّريفي].
اليهود والنصارى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم باتباع الشهوات فوقعوا في الشبهات والتحريف قال جل وعلا: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، قال الزمخشري: “وذلك أنّ بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره”. [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل]، فاتخذوا الأحبار والرهبان أربابا يُحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال ومكَّنوهم من أموالهم ونسائهم، فأنَّا لهم أن يُسلموا ويتركوا تلك الحظوة؟! قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]، وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34].
فهذا بلعم بن باعوراء لما تمكنت شهوة الدنيا من قلبه كفر بآيات الله وتركها وراء ظهره؛ قال سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال السعدي: “{وَلَكِنَّهُ} فعل ما يقتضي الخذلان، {فَأَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ}، أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية”. [تيسير الكريم الرحمن].
ولقد منعت شهواتُ الدنيا اليهودَ من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم رغم معرفتهم به كما يعرفون أبناءهم، فأضمروا عداوته وزعموا أنه لم يأتهم بالحق حفاظا على الملك والحظوة والمال؛ “قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت:
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت” [سيرة ابن هشام وسنده قوي].
ولما جاء وفد نجران للنبي صلى الله عليه وسلم تيقنوا من نبوته وعرفوا صدقه فنكلوا عن المباهلة، ورغم ذلك لم يُسلموا خوفا على ملذات الدنيا وحظوظهم منها، ولكنهم بالطبع ساقوها في شكل شبهات حفاظا على مكانتهم عند الأتباع؛ وهذا ما قاله صراحةً أسقفهم لبشر بن معاوية، لكن بشرًا لما سمع ذلك من الأسقف أسلم وهاجر للمدينة، قال ابن القيم: “حتى إذا قبضوا كتابهم، انصرفوا إلى نجران، فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة، ومع الأسقف أخ له من أمه، وهو ابن عمه من النسب، يقال له: بشر بن معاوية، وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف، فبينا هو يقرؤه، وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته، فتعس بشر، غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الأسقف عند ذلك: قد تعست والله نبيا مرسلا، فقال بشر: لا جرم والله لا أحل عنها عقدا حتى آتيه، فضرب وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني إنما قلت هذا لتبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا: إنا أخذنا حمقة، أو نخعنا لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: لا والله لا أقيلك ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته، وهو مول ظهره للأسقف وهو يقول: “إليك تعدو قلقا وضينها … معترضا في بطنها جنينها … مخالفا دين النصارى دينها”، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك”.[هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى].
يقول ابن القيم: “ولقد ناظرنا بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليان: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير – هكذا لفظه – فرشوا الشقاق تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم ونسائهم، ولم يعصوني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعة، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟!” [هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى].
لقد قرن القرآن الكريم بين الشهوات والشبهات، فقال جل وعلا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، فمن غرق في أوحال الشهوات؛ خيمت على قلبه ظلمات الشبهات، فكلاهما متلازمان؛ قال تعالى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ))؛ يعني: الشبهات، ((وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ))؛ يعني: الشهوات.
وقال تبارك وتعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69]، فإذا هبت رياح الشهوات؛ جلبت معها غبار الشبهات، فكلاهما متلازمان؛ قال تعالى: ((فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ))؛ يعني: تمتعوا بنصيبهم المقدر من شهوات الدنيا، ((وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))؛ يعني: شبهات الخوض بالباطل.
وذكر الله تبارك وتعالى هذين المرضين في كتابه، فقال في مرض الشهوة: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، وقال في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].
وقد عصم الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من كلا المرضين فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [سورة النجم: 2،1]؛ فهو صلى الله عليه وسلم كاملٌ في علمه وعمله؛ زكّاه في علمه ومعرفته بربه فقال: ((مَا ضَلَّ))، وزكّاه في عمله ورشده فقال: ((وَمَا غَوَى)).
وقال تعالى عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]؛ {أُولِي الْأَيْدِي} يعني القوة في طاعة الله تعالى، {وَالْأَبْصَارِ} يعني البصر في الحق؛ فعصمهم عليهم السلام من كلا المرضين.
ووصف الحبيبُ صلى الله عليه وسلم خلفاءه من بعده بالرشد والهدى وأمر باتباعهم على سنتهم فقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”، وصححه الألباني]؛ فالراشد ضد الغاوي فيتقي الشهوات، والمهدي ضد الضال فيتقي الشبهات.
وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه؛ جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين المرضين فقال: “إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى“. [رواه أحمد والبزار والطبراني في “معاجمه الثلاثة”، وبعض أسانيدهم رواته ثقات، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].
قال أبو العتاهية:
أَما وَالَّذي يُحيى بِهِ وَيُماتُ لَقَلَّ فَتىً إِلّا لَهُ هَفَواتُ.
وَما مِن فَتاً إِلّا سَيَبلى جَديدُهُ وَتُفني الفَتى الرَوحاتُ وَالدَلَجاتُ.
يَغُرُّ الفَتى تَحريكُهُ وَسُكونُهُ وَلا بُدَّ يَوماً تَسكُنُ الحَرَكاتُ.
وَمَن يَتَتَبَّع شَهوَةً بَعدَ شَهوَةٍ مُلِحّاً تَقَسَّم عَقلَهُ الشَهَواتُ.
والعلاج يكمن في الصدق مع النفس بدفع الشهوات وعدم التذرع بشبهات واهية، والعمل على سلامة القلب من هذه الشهوات، وإنقاذه من حب الدنيا والتعلق بها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) [رواه مسلم]، وقد أوجز النبي صلى الله عليه وسلم العلاج في جوامع كلمه المبارك فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [رواه البخاري ومسلم].
فالقلب هو ميدان المعركة وهو وعاء الإيمان ومهبط اليقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها) [صحيح الجامع الصغير وسنده حسن؛ في إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس ولكنه صرح بالتحديث]، قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] هكذا الوحي حينما يطهر القلوب من أوساخ الشهوات وأدران الشبهات؛ فالعلم والإيمان إذا خالطا شغاف القلوب بددا ما فيها من شهوات كما يجرف السيلُ الزبد فلا يبقي إلا الماء العذب الزلال، قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) [حسنه الألباني في المشكاة وصحيح الجامع].
وجهاد الشهوات يكون بالصبر، أما جهاد الشبهات فيكون باليقين؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، صبروا عن الشهوات، وتيقنوا عند الشبهات، فنصرهم الله وجعلهم أئمة، قال شيخ الإسلام: “بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين”. [المستدرك على مجموع الفتاوى].
وهذا يحتاج حسن ظن بالله وجميل توكل عليه سبحانه وتفويض الأمر كله له وأن نصدق في اللجوء إليه ليطهر قلوبنا من التعلق بالشهوات ويرزقنا البصيرة في دحض الشبهات؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات“. [أورده شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل وقال: حديث مرسل، قال العراقي: أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عمران بن حصين، وفيه حفص بن عمر العدني، ضعفه الجمهور]، ومورد البصر النافذ والعقل الكامل هو القرآن الكريم.
اللهم طهر قلوبنا من محرمات الشهوات وظلمات الشبهات ونجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
لمتابعة مقالات العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
– هكذا نصروه – التحرير
الركن الدعوي
-الشهوة أصل الشبهة – الشيخ أبو اليقظان محمد ناجي
– عقائد النصيرية 10 – الشيح محمد سمير
– أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر – الشيخ أبو شعيب طلحة المسير
– ويمشي في الأسواق – الشيخ همام أبو عبد الله
– حب النبي صلى الله عليه وسلم – الشيخ أبو حمزة الكردي
صدى إدلب
– إدلب في شهر صفر 1442هـ – أبو جلال الحموي
– لقطة شاشة – أبو محمد الجنوبي
– مواقيت الصلاة في إدلب لشهر ربيع الأول 1442هـ – رابطة العالم الإسلامي
كتابات فكرية
– آفة الاستعجال – د. أبو عبد الله الشامي
– المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان – الأستاذ أبو يحيى الشامي
– أفغانستان جراح وآمال – إحسان الله (أنس الأفغاني)
– الحق أقوى من إعلامهم – الأستاذ خالد شاكر
ركن المرأة
– طريق الهداية الأستاذة – نسمة القطان
الواحة الأدبية
– بين الإيمان والحب – الأستاذ غياث الحلبي
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا
لمتابعة قناة مؤسسة بلاغ الإعلامية على التليجرام تابع