الحزبية المقيتة والعصمة العملية – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٥٩ – رمضان ١٤٤٥ هـ – March 19, 2024
د. أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فعند مسلم من رواية أبي الزبير عن جابر قال: “اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر أو المهاجرون: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَا هَذَا؟ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟»، قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر، قال: «فَلَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا: إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ» قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: “وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا، وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا، وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام” انتهى كلامه رحمه الله والذي يتضح من خلاله ذم التعصب ولو على مسميات شرعية مهاجرين-أنصار فمن باب أولى أن يكون الذم على غيرها من الأحزاب والجماعات، يقول ابن القيم رحمه الله: “الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي فكل هذا من دعوى الجاهلية” وهذا التعصب المذموم هو عين التفرق المذموم بخلاف ما يزعمه البعض من الأحزاب والمتعصبين لها وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب؛ أي: تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونَهَيَا عن الفرقة والاختلاف، أمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان”.
وأولى الناس بتجنب هذا التعصب المذموم هم العلماء وطلبة العلم يقول صلى الله عليه وسلم: «يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ» يقول الإمام النووي رحمه الله شارحا لمعنى الحديث: “وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفًا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف، وما بعد فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهذا من أعلام النبوة، ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئًا من العلم، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف شيئًا منه، والله أعلم”. وعليه فإن صيانة العلم والمفاهيم السنية وحفظها من العبث التصوري والتشويه السلوكي لأهل الإفراط والتفريط، وأدعياء العلم، حق وواجب شرعي، لا يضيعه شيء في واقعنا المعاصر، مثل تمكن الحزبية المقيتة في النفوس وما ينتج عن ذلك من تكريس منهج تبريري وفقه انتقائي تلفيقي يبرر للحزب والجماعة كل أفعالها معطيًا الجماعة وقائدها العصمة العملية وإن تم نفيها لفظا، يقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: “فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها” وكل هذا يجعل الجماعة وقائدها أقرب لطريق الرافضة من طريق السنة حيث الأئمة عندهم معصومون أكثر من الأنبياء والرسل يقول الدجال الهالك الخميني في كتابه الحكومة الإسلامية عن أئمتهم: “إنهم لا يتصور فيهم السهو والغفلة” وعليه فنحن أمام أحزاب وجماعات تختزل الأمة في جماعتها بل في قائدها وتختزل الإسلام في اختياراتها التي تقوم على التلفيق بين مسائل فقهي الاستضعاف والتمكين عاكسة بذلك حالة “فصامية تبريرية” تترجم تمكن “الحزبية المقيتة” في النفوس ومما يزيد الحالة استفحالًا إعمال فقه الاستضعاف مع العدو وأجنداته وفقه التمكين مع المسلمين في صورة متناقضة مشوهة.
أخيرًا؛ فإن الجماعات والأحزاب وقادتها هم مجرد وسائل لتحقيق غاية شرعية والانحراف يبدأ عندما تصبح الوسيلة هي الغاية والجماعة هي الأمة واختياراتها هي الإسلام في صورة من العصمة العملية التي يمُجُّها من عنده مسكة من عقل وشيء من فطرة سوية، يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[الجاثية:23].
والحمد لله رب العالمين..