الثبات عند الفتن – مجلة بلاغ العدد ٧٠ – رمضان ١٤٤٦ هـ

الشيخ: محمد سمير
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد؛
فإن الفتن تعصف في كل مكانٍ لاسيما بعد الفتح والنصر حيث زالت حواجز كثيرةٌ كانت تحول بين المرء وألوان الفتن ولا شك أن المجتمع له تأثيرٌ على الشخص، ومع انتقال كثيرٍ من الشباب إلى مدنهم وقراهم المحررة حديثًا فإنهم يجدون مجتمعًا يختلف كلياً عن المجتمع الذي عاشوا فيه سنين طويلةً وبينهم وبين كثيرٍ من الفتن سدودٌ عظيمة.
والإنسان يخشى على نفسه الفتن لاسيما فتنة الدنيا والنساء كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: «فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ» متفق عليه، وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ» رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرجالِ من النساءِ».
*ولنذكر بعض الأسباب التي تعين الإنسان على الثبات:
1 – وأول ذلك اللجوء إلى الله وسؤاله التثبيت والاستعاذة به من الزيغ والانحراف، وقد كان أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: “يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: «يا أمَّ سلمةَ إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ»” أخرجه الترمذي.
وقد ذكر الله من دعاء عباده المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
والإنسان كلما استشعر ضعفه وذله وعجزه وفقره بين يدي ربه كان ذلك أدعى لإجابته وتثبيته فتأمل في قصة يوسف عليه السلام وهو يتضرع إلى ربه {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، فكانت النتيجة {فَٱسْتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} [يوسف:34].
2 – الحذر من الذنوب لا سيما ذنوب الخلوات فإنها من أعظم أسباب الانتكاس؛ فإن من عقوبة المعصية فعل المعصية بعدها وتأمل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، قال ابن كثير: “ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها”.
قال ابن القيم رحمه الله: “أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات”.
3 – الاستكثار من الطاعات التي لا يعلم بها إلا الله فهي خير زاد للعبد على مواجهة الفتن؛ قال الشيخ الطريفي فك الله أسره “أمر الله نبيه بقيام الليل وهو ما زال بمكة وفي أول نزول الوحي، وهذا يدل على فضل صلاة الليل وعبادة الخلوات، فهي من أعظم المثبتات للعبد، وما من نبي من الأنبياء إلا أمره الله بالعبادة قبل الرسالة، لأن الإصلاح يتبعه شدة، والشدة تحتاج إلى ثبات، ولا يثبت المصلح شيء كتقوية صلته بالله بالعبادة، ولهذا قال الله لنبيه: {قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلًا}، ثم بين سبب ذلك: {إنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}”.
4 – الحرص على البعد عن مواطن الفتن فإن الاقتراب منها مظنة الزيغ؛ وقد أرشدت الشريعة إلى الفرار من الفتن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ يَسْتَشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْ لَهُ، وَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» متفق عليه، قال ابن حجر: “من تشرف لها أي تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها”، تستشرفه أي تهلكه بأن يشرف منها على الهلاك وكذلك كان التوجيه الشرعي هو الفرار من الدجال كما في الحديث «ليفرَّنَّ النَّاسُ منَ الدَّجَّالِ في الجبالِ».
5 – معرفة حقيقة الدنيا والحذر من الاغترار بزهرتها وبهجتها؛ فإنها وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظمت فهي حقيرة، فالدنيا في ميزان الله لا وزن لها ولا قيمة لها ومن الحمق أن يضيع الإنسان دينه من أجل دنيا تافهة، ففي الحديث: «لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ» أخرجه الترمذي.
وفي حديث آخر: «واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظر بم يرجعُ».
6 – مطالعة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام والصحب الكرام والاقتداء بهم؛ في الزهد والإعراض عن الدنيا وإيثار ما عند الله قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى:17-16].
7 – تدبر القرآن والتفقه فيه؛ فهو غذاءٌ للقلوب والأرواح يسمو بالإنسان ويرتقي به عن حطام الدنيا وزخرفها.
نسأل الله أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه وأن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن والحمد لله رب العالمين.