الأزمة الأوكرانية.. نذر حرب وشيكة أم سياسة “حافة الهاوية”؟ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون رجب ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون رجب ١٤٤٣ هجرية – شباط ٢٠٢٢ ميلادي
الأستاذ: حسين أبو عمر
حشدت روسيا عشرات الآلاف من الجنود على الحدود الشرقية لأوكرانيا، مناورات عسكرية، تسريبات متتالية، وضخ إعلامي عن نوايا روسية لغزو أوكرانيا، دول تطلب من رعايها مغادرة أوكرانيا.. توترٌ يتصاعد حدةً يومًا بعد يوم؛ وضعٌ وصفه روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني، وزير الاقتصاد وحماية المناخ بأنه “حرج للغاية”، وقال: “حتى خلال الحرب الباردة، لم تكن خطورة الوضع مرتفعة بهذا المستوى كما هي عليه الآن”.
فهل الوضع بهذه الخطورة حقًا؟ وهل ينوي بوتين، الذي تخلى في الميدان الأوروبي 2014 عن فيكتور يانوكوفيتش، الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، وامتنع عن التدخل العسكري لحماية حكمه من السقوط، والذي قُتل العشرات من مرتزقته على يد القوات الأمريكية في حقل كونيكو للغاز في سوريا عام 2018 دون أن تصدر أي ردة فعل منه؛ هل ينوي حاليًا اجتياح أوكرانيا مهما كان الثمن؟
قبل الإجابة على السؤال، لا بد من التذكير بأن شهر أبريل من العام الماضي شهد نفس الأحداث تقريبًا: فقد حشدت روسيا وقتها حوالي مائة ألف جندي على الحدود الأوكرانية، وأجرت مناورات عسكرية، وهددت، ووضعت خطوطًا حمراء…، وفي المقابل هدد الغرب وتوعد، وحصل اتصال بين بوتين وبايدن… إلى أن هدأت الأزمة نوعًا ما.
في مقالة تحت عنوان «أي سياسة مستقبلية تجاه روسيا يجب أن تضع شيئًا واحدًا في الاعتبار»، نشرتها صحيفة “دي فيلت” الألمانية، يقول الصحفي والكاتب الألماني توماس شميد: “بوتين قومي واقعي. فعلى الرغم من أنه يهدد بشكل أو بآخر بالحرب على الحد الشرقي لأوكرانيا، إلا أن كل المعطيات -تقريبًا- تشير إلى خلاف ذلك، أسلوبه هو الحذر الشديد”.
وقال: “يتفق كل شيء اليوم ضد أنه يخطط لغزو واسع النطاق لأجزاء من أوكرانيا، إنه حذر جدًا في ذلك؛ لأن هذا الغزو سيكون له نتيجتان (لا يمكنه تحملهما) لأنها ستؤدي إلى خسائر فادحة في أرواح وعتاد الجيش الروسي، فلن تحظى بشعبية كبيرة لدى السكان الروس…
ثانيًا، إذا ما واجه، بعد احتلال (جزئي) لأوكرانيا، اضطرابات شديدة وغير متوقعة في المناطق التي تم احتلالها -فإنه سيكون قد استنزف قوته”.
في جوابه على سؤال إذا ما كانت الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية لاجتياح أوكرانيا فعلًا أم هي وسيلة ضغط من أجل الحصول على ضمان عدم توسع الناتو شرقًا وتحقيق مكاسب أخرى؛ قال الدبلوماسي والسياسي الألماني، الرئيس الأسبق للأكاديمية الألمانية للسياسة الأمنية، البروفيسور هانس ديتر هويمان، على قناة فونيكس الألمانية، إنه يعتقد أنها: “ممارسة ضغط من أجل التفاوض على الأشياء التي يمكن التفاوض عليها”.
صحيح أن الظرف الدولي اليوم (بعد هزيمة أمريكا في أفغانستان وأثر ذلك على سمعتها، وتزايد حدة التنافس بين أمريكا والصين) يختلف عما كان عليه في 2014 وفي 2018 أو حتى قبل عام، إلا أن تحركات بوتين ما زالت توحي بأنه يستغل هذا الظرف الدولي، ويضغط بأقصى حد ممكن من أجل تحقيق مكاسب معينة؛ بمعنى أن بوتين يطبق فعليًا سياسة “حافة الهاوية” التي ابتدعها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون فوستر دالاس، والتي يُقصد بها: “لجوء دولة أو كيان سياسي لتحقيق مكاسب معيّنة عن طريق تصعيد أزمة ما، ودفعها إلى شفا الحرب والمواجهة الصريحة”.
* مسألة انضمام أوكرانيا للناتو:
لماذا يصر الأمريكي على الحديث عن أن أبواب الناتو مفتوحة لأوكرانيا وعن إمكانية توسع الناتو؟! وفي ذات الوقت لا يتم ضم أوكرانيا، بل ويمتنع الأمريكي وكل دول الناتو عن تقديم مساعدة حقيقية، تمكن أوكرانيا من الدفاع عن نفسها أمام عدوان روسي وشيك -كما يقولون-، فهل الناتو جاد في ضم أوكرانيا؟
في كتابه «عالمٌ في فوضى» كان قد دعا السياسي الأمريكي ريتشار هاس إلى عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو، قال: “يجب تعليق عملية منح عضوية الناتو لكل من أوكرانيا وجورجيا”.
ماركوس زودر، رئيس وزراء ولاية بافاريا، رئيس حزب الاتحاد المسيحي الاجتماعي CSU ، في مقابلة مع صحيفة “فرانكفورتر العامة” في 22 يناير 2022، قال: “سيتعين على الغرب في وقت ما أن يجيب على السؤال الجوهري: هل توسع الناتو ليشمل أوكرانيا أمر مخطط له أم لا؟..
من وجهة نظري، الأمر واضح: توسع الناتو شرقًا ليشمل أوكرانيا لن يكون على جدول الأعمال لفترة طويلة”.
بل يذهب آندري هيرتل، الخبير في شؤون شرق أوروبا في المعهد الألماني للعلاقات الدولية والدراسات الأمنية (SWP) ، إلى أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو أبدًا، قال في حوار مع قناة (ntv) في 26 يناير 2022: “لا توجد عملية سياسية لإدماج أوكرانيا في الناتو، صحيح أنه يتم ذكر ذلك مرارًا وتكرارًا؛ لأن الأوكرانيين أنفسهم يطالبون بذلك. لكن، إذا نظر المرء إلى المناقشات داخل الناتو، فمن الواضح تمامًا أن أوكرانيا لن تنضم إلى الناتو أبدًا…
هذا الأمر معلوم مائة بالمائة في موسكو أيضًا”.
في كتابه «عالمٌ في خطر» الصادر عام 2018 يقول السياسي الألماني فولفغانغ إشينغر، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن: “مسألة عضوية أوكرانيا في الناتو تم حسمها منذ فترة طويلة بحكم الأمر الواقع بالرفض”.
بعد أن ساق كلام إشينغر -مؤيدًا له- تساءل السياسي والكاتب الألماني، كلاوس فون دوناني، في حوار مع صحيفة هامبورغ اليومية «هامبورغر آبيند بلات» في 14 يناير 2022: “لماذا لم يعلن الناتو رسميًا عن ذلك منذ فترة طويلة؟” ثم تساءل إذا ما كان الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ “مجرد بوق للمصالح الأمريكية؟”.
في الحقيقة، أمريكا -هي الأخرى- تمارس سياسة ضغط على روسيا (تكرار الكلام عن إمكانية توسع الناتو، إرسال مزيد من الجنود إلى دول الناتو في شرق أوروبا، التهديد بعقوبات اقتصادية شديدة…) لتحقيق مكاسب خاصة.
* مساومات على طريقة “حافة الهاوية”:
«الولايات المتحدة والناتو مستعدان لمساومة روسيا» عنوان مقالة في صحيفة «فزغلياد»، أوردتها قناة «روسيا اليوم» في 14 يناير 2022، جاء فيها قول الباحث في الشؤون الأمريكية مالك دوداكوف: “يحاول الغرب المساومة على شيء أكثر عالمية مقابل عدد من التنازلات لموسكو، قد يتعلق ذلك بعلاقاتنا مع الصين، في سياق المواجهة العامة بين واشنطن وبكين، ستحاول الولايات المتحدة إبعاد روسيا عن الصين. بشكل عام، بناءً على البيانات الأولية عن نتائج الاجتماع في بروكسل، يمكننا القول: إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مستعدان للدخول في مساومة مع روسيا”.
كما كانت القناة نفسها قد نقلت في 8 سبتمبر 2018 تحت العنوان «هل يقبل الكرملين مقايضة القرم بالصين؟» قول الباحث في مركز دراسات مشاكل الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين لصحيفة «سفوبودنايا بريسا»: “الولايات المتحدة ستواجه قريبا معركة كبيرة مع الصين. سيحاولون ضمان حياد موسكو استراتيجيا، حتى لا تعرقل روسيا على الأقل ردع الصين. وستكون هذه المحاولة أقصى ما ستنجح الولايات المتحدة في تحقيقه.
ومن أجل هذا الحد الأقصى، سيكون الاعتراف بشبه جزيرة القرم وعدم توسع الناتو في أوكرانيا وجورجيا، أقل ما يمكن أن يقبل الكرملين به”.
فبوتين يستغل الظرف الأمريكي ويدفع بالصراع باتجاه “حافة الهاوية” من أجل تحصيل أقصى مكاسب ممكنة، وكذلك تهدد أمريكا بفرض أقصى عقوبات ممكنة، وتكرر التصريح بأن أبواب الناتو مفتوحة لأوكرانيا لدفع بوتين إلى تخفيض سقف طموحاته، ومن ثم الوصول إلى اتفاقية مرضية للطرفين.
من وجهة نظري هذا السيناريو هو الأرجح. لكن، يبقى الاحتمال في أن يتطور الصراع إلى حصول مواجهات حقيقية مفتوحًا؛ عندها ستكون أمريكا في ورطة:
فمن جهة، ليس من مصلحة أمريكا استنزاف روسيا في الوقت الحالي وإضعافها إلى درجة يمكن أن تنشأ فراغات في آسيا الوسطى أو جنوب القوقاز -المنطقة التي لها أهمية خاصة عند الكثير من علماء الجغرافيا السياسية- يمكن أن تملأها الصين أو حتى تركيا؛ وهذا الأمر -على سبيل المثال- كان واضحًا في التعاطي الأمريكي مع التدخل العسكري الروسي في سوريا، أو مع ما حصل في كازاخستان مؤخرًا، أو في أماكن أخرى.
ومن جهة ثانية، فإن تسليم أوكرانيا لبوتين -عدا نتائجه الأخرى- سيكون له بالغ الأثر في سعي أمريكا للحد من انتشار الأسلحة النووية؛ كان قد أشار إلى ذلك السياسي الأمريكي ريتشارد هاس في كتابه «عالمٌ في فوضى»، قال: “لقد أُضعفت الفكرة المعادية لانتشار الأسلحة النووية بشكل عملي… أوكرانيا مثلًا، تنازلت عن أسلحتها النووية بعد استقلالها مباشرة…
بعد عقدين، تعرضت لغزو من قوات تدعمها روسيا، وفقدت شبه جزيرة القرم…
العراق، من ناحيته، أُجبر على التخلي عن برنامج الأسلحة النووية الخاصة به في أعقاب حرب الخليج عام 1991، وبعد نحو عقد غزته الولايات المتحدة…
بينما بقي حكم كوريا الشمالية في موقعه، يحميه برنامجه النووي”.
أما فيما يخص إمدادات الطاقة إلى أوروبا؛ فإن الحجة الوحيدة التي يتذرع بها الألمان هي أن إمدادات الطاقة مشاريع اقتصادية خالصة وأن الاتحاد السوفيتي لم يُقدم على أي خطوة في اتجاه قطعها، حتى في أشد الأوقات توترًا خلال الحرب الباردة. وقد أظهرت الأزمة الحالية شرخًا كبيرًا داخل الغرب، فإن قطع بوتين إمدادات الطاقة عن أوروبا فسيؤدي ذلك إلى إعادة توحد الغرب ضده؛ فلذلك لا يُتوقع أن يوقفها.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٣ رجب ١٤٤٣ هـ