عُقدةُ المِنشارِ في الثَّورةٍ السُّوريَّةِ والجِّهادِ الشَّاميِّ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٥ – رجب ١٤٤٤هـ
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
قلَّما يجد النَّجارُ قطعةَ خشبٍ من جِذعٍ ليس فيها عُقَدٌ، فإذا وجد فإنها أغلى ثمناً من القطع الأخرى “المعقدة” من ذات النوع؛ لأنها مطواعةٌ يستطيع الانتفاع بها كلِّها، وتشكيل ما يهدف إليه من غرضٍ، والعُقد أنواعٌ وأحجامٌ أيضاً، فمنها ما يمنع من الهدف فيحول عمل النجار إلى هدفٍ أقلَّ منه، ومنها ما يمنع من كلِّ الأهداف ويحرم من الانتفاع بالقطعة المعقدة كلياً.
عُقدَةُ الخشبِ هذه سميت عقدة المنشار؛ لأنها تستعصي عليه، وهو الأداة الأساسيَّةُ التي يعتمد عليها النجار في عمله، ثم ذهبت مثلاً يضرب لكل أمرٍ عائقٍ لمسعًى أو مُعقِّدٍ لقضيةٍ أو مانعٍ من هدفٍ، في كل المجالات.
وفيما يخصُّ التجمعات البشرية، إن التعقيدات الخارجية بالنسبة للمسلمين لا تضرهم إلا أذًى، وهي في الغالب تأتي من ناحية أهل الكتاب، قال الله تعالى عنهم: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، لكن ما أثر ويؤثر على مناعة الأمة ومكانتها هي التعقيدات الداخلية، التي تُضعِفُ صفَّها وتُوْهِنُ عزمها وتجعل بأسها بينها، إنه أخطر ما تصاب به الأمم، وهو حاضرٌ في أمتنا، ويمكن الاستشهاد بأحداثٍ كثيرةٍ قديمةٍ وحديثةٍ.
كانت سياسة ملء الفراغ والاحتواء والإلهاء تظهر مع ظهور الإمبراطوريات كلمحاتٍ تاريخيةٍ قليلةٍ، لكن مع تراكم وتطور الخبرات ثبَّتَ النظام الدولي الحالي هذه الطريقة للسيطرة على الشعوب والأمم، وكما أن أقدر العوامل الممرضة هي السرطانات والفيروسات؛ لأنها تنتحل صفات الجسم وتتنكر بمظهر خلاياه، كانت الأنظمة والتنظيمات التي تنتمي أو تدعي الانتماء إلى الشعوب والأمم المستهدفة الأقدر على خداعها وعرقلتها وتعقيد قضاياها، جاهلةً تُوظَّفُ بطريقةٍ غير مباشرةٍ ثم عالمةً تعرض الخدمات وتطلب التوظيف المباشر، لكنها موظفة في الحالين، والأخيرة هي الأقذر بالتأكيد.
في خط سير الثورة السورية والجهاد الشامي كان هناك محطاتٍ مع كياناتٍ منها أو دخيلةٍ عليها أضرت بالثورة السورية، بعضها كان ضررها بسيطاً مؤقتاً، وبعضها كان ضررها مركباً متطوراً مستمراً، ومعلومٌ أن تَحَوُّرَ الفيروس يجعل خطورته مضاعفةً ومستمرةً، ومجابهة مناعة الجسم له أصعب، ومعلوم أن ارتباط السرطان بالجسم والانتشار في أجزائه وسرطنتها خطر مضاعفٌ ومستمرٌ أيضاً، لكن صعوبة العلاج ليست استحالة، وأكبر وأصلب العقد يمكن معالجتها بالصبر وتحديث الآلات.
إن الطغاة الذين يتطورون في سلم التوظيف للسيطرة على الشعوب واحتوائها يخشون قوتين، الثانية من وظفهم بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ، والأولى الشعب الذي يعملون على تقييده واحتوائه، فالشعب الأبي لا يرضى بحالةِ التَّملُّكِ والفسادِ التي تفرض على الكثرةِ من قبل قلةٍ، فيعمد هؤلاء إلى التوريط والتعقيد ليصعب استئصالهم بسهولة، وهذا ما فعله النظام المجرم الذي قامت الثورة ضده، فهو منذ خمسين سنةً يضرب بجذوره وعقده ليُصعِّبَ النزعَ على جسم الشعب، وكذا يفعل أشباهه من فئاتٍ وأشخاص، ولا يعتبرون من درس الثورات التي قامت عليه، بل يغويهم ويغريهم استمراره حتى حين.
في معركة ذات السلاسل قيَّدَ هرمز قائد الفرس جنوده بالسلاسل كي لا يهربوا، فكانت سبباً من أسباب هزيمتهم وهلاكهم، فالتقييد أكبر مثبطٍ نفسيٍّ عن القتال والجهاد، والعملِ كلِّ العمل، وخاصةً إذا كان التقييد بمن لا يرتضيه المقيدون، وهو يقع فيهم بالظلم والفساد ويذعر عليهم ويغري بهم.
لقد كان لتقلبات وتَحَوُّراتِ قيادة جبهة النصرة ثم هيئة تحرير الشام الضرر الأكبر على الثورة وأهلها، ابتداءً من استعداء العالم، مروراً بتكفير واستباحة الفصائل الثورية، وليس انتهاء بعرض الخدمات الدولية فيما تبقى من أرضٍ محررةٍ من النظام المجرم وداعميه، فكانت بذلك العقدة الأكبر التي ربطت مصير الهيئة ككيان بهذه القيادة، وربطت مصير الثورة باستمرارها أو زوالها، وظهرت بعض نتائج هذا ولاحَ بعضها الآخر والأخطر، فكانت عقدةً على عقدةٍ، وكان الخلاص منها مصيرياً بالنسبة للثورة وبالنسبة لها أيضاً، وهنا يكمن الخطر الوجودي.
وبطريقةِ العصا والجزرة كان لجبهة النصرةِ ثم هيئة تحرير الشام -تحت ذات القيادة- الدورُ الأكبر في ضربِ فصائلَ ثوريةٍ وجهاديةٍ كثيرةٍ، وإلجائها إلى الدخول في تشكيلاتٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ مسلوبةِ القرارِ تابعةٍ للإرادةِ والإدارةِ الدوليةِ، ثم التنازلِ أكثرَ وأكثر بفعل الملاحقةِ الحثيثةِ والتهديدِ المستمر، مع الاستمرار في كيلِ الاتهامات والمزاودةِ بالشعاراتِ، ثم أسفَرَت هذه القيادة عن وجهٍ فيه كل التشوُّهاتِ التي عابت بها غيرها، لتقدم أوراقَ اعتمادها وتبدي استعدادها للانخراطِ فيما ألجأت غيرها إليه، لكن كقيادةٍ ضالَّةٍ مُضِلَّةٍ أيضاً لتكملَ الدَّورَ المَنُوطَ بها.
وفيما تُرفعُ صورة المقاوم كدعايةٍ وتسويقٍ أنه ينفذ مشاريع شعبه أو أمته، تظهر حقيقة المقاول الذي ينفذ مشاريع الغير بمقابلٍ ماديٍّ أو استعمالٍ مؤقتٍ، هناك فرقٌ في حرفٍ واحدٍ في المبنى، لكن فارقَ المعنى كبيرٌ، وشتَّان بين المقاوم والمقاول، إن المقاول يعتمد على المناقصة في الأسعار والمزايدة في وصف الخدمات المقدمة والعمل المعروض، وإن المقاول الخبيرَ في الفساد يربط المشروع بشخصه حتى يصعب استبداله، وتكون عنده طرقٌ تخريبيةٌ لمنع ذلك، ويستعين بأمثاله ممن يرتبط به مصيرياً أيضاً، فيصبح شغلهم الشاغل الاستمرار في التورُّطِ والتوريطِ خوفاً من الاستبدال، ليس الاستبدالَ الإلهي، بل إنه الاستبدالُ الدوليُّ بالتأكيد.
وبعد أن بدأت عبارة “الأسد أو نحرق البلد” بالأفول، نظراً لتململِ الحاضنة التي أيدت النظام المجرم حتى دمر سوريا وصهرهم في بوتقة الذلِّ والعَوَزِ، استمرت عبارة “الجولاني أو نحرق البلد” بالظهور، ضمنياً وعملياً، في مشهدٍ مكروهٍ مكررٍ مؤقتٍ، فالشعب الذي اقتلع عقدة الأسد ونظامه من عقله الجمعي على الأقل، يقتلع غيره وغيره، والنظام الدوليُّ الذي استبدل الكثير من الطغاة ولم ولن يستطيع استبدال الشعوب، سينهي عقد الاستعمال المصلحي في الوقت الذي يناسبه.
كنت كتبت مقال “الجهادي والوهم والخطيئة الأخيرة”، أحذر من محاولة قيادة الهيئة السيطرة على كل الشمال المحرر، حيث ستكون في هذه المحاولة نهايتها مع ما تسببه للثورة من مشاكل، ستنتهي حتى إذا نجحت في السيطرة لأنها ستكون سيطرةً مؤقتة، لتمرير التنازلات المطلوبة من الذي لم ولن يرفع عنه التصنيف الإرهابي وجرائم الحرب المسجلة، فلا هو يترك المجال لغيره لأنه يعلم أن في الترك نهايةً شخصيةً له، ولا هو ينشغل مع جماعته بقتالٍ حقيقي للنظام المجرم، ولذلك يريد على أي حال أن يلعب على الوقت والخدمات، وهذه اللعبة المضمون الوحيد فيها إضراره بالثورة ومواجهة أهلها واتخاذهم دروعاً بشريةً وسلعة مقايضةٍ.
في هذه السنوات الماضية من عمر الثورة السورية كثيراً ما رأيت وسمعت أشخاصاً فاسدين يفكرون بهذه الطريقة بصوت عالٍ، منهم من انخرط في الثورة لمصلحةٍ شخصيةٍ وفئويةٍ، وليضمن استمرار المكانة الاجتماعية، كالذي قال لأبنائه: “ادخلوا الثورة مع الفصيل الفلاني لأن عائلة فلان دخلت مع الفصيل الآخر، لا نسمح لهم بالتعلِّي علينا”، ثم كانت لمن مَرَدَ على الفساد فرصةٌ أن يجمع المال والرجال، ويأبى أن يترك السلطة والنفوذ، فهي الضمانة الوحيدة لمنع محاكمته وعقابه على الجرائم التي ارتكبها، في صورةٍ منسوخةٍ عن الباطل والفساد العالمي والإقليمي والمحلي، والطغيان هو الطغيان.
هذه الحالة المستعصية التي تُفضِّلُ الجحيمَ على الاعترافِ بالخطأ والتراجع عنه، وتُدمِنُ الاستمرار في الكيدِ والمكرِ للاستمرار فقط، وعلى أي مذهبٍ وطريقةٍ، المهم الاستمرار وتوريط الغير، هي إرث إبليس -لعنة الله-، حيث قاده كبره إلى أعظم الموبقات، ثم بدلاً من التوبة والاستغفار للنجاة من النار، رأى أن إثبات نظرية تفوقه وأهمية وجوده يكون في إغواء بني آدم وجرهم بسلاسل المعصية إلى مصيره، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، لكن هذا له استثناء، {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 40 – 42]، وبهؤلاء الْمُخْلَصِينَ المُخلِصِيْنَ على قِلَّةِ عددهم بعد التَّمحِيصِ، وقوة بأسهم وثباتهم في امتحان البلاءِ واللَّأواءِ، تبقى المدافعةُ مستمرةً، ويستقر الأمر إلى الصلاح، وتنتهي العقد بفضل الله، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا