التطبيع العربي مع الاحتلال الصهيوني / كيف بدأ وإلى أين وصل؟ – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٤٥ – رجب ١٤٤٤هـ⁩

الشيخ: إسماعيل بن عبد الرحيم حميد أبو حفص المقدسي

الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.

بعد اتفاقية سايكس وبيكو عام 1916 شهد العالم العربي والإسلامي تغيرا جذريا على جميع المستويات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ حيث تم تقسيم تركة دولة الخلافة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى بين المنتصرين فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا لهما نصيب الأسد من هذه التركة.

وبدأ بعد ذلك تكريم عملاء الاحتلال الغربي في بلاد المسلمين بتنصيبهم ملوكا ورؤساء وأمراء على ما يعرف اليوم بالدول العربية والإسلامية، لتنتج أنظمةً وظيفيةً بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولتصبح شعوب الأمة بأسرها تحت الاحتلال غير المباشر.

ولا بد من إعطاء القارئ لمحة تاريخية سريعة عن تقسيم العالم العربي والإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى ليدرك كيف وصل بنا الحال إلى ما وصل إليه اليوم؛ حيث كان تقسيم الدولة العثمانية (ما بين هدنة مودروس في 30 أكتوبر 1918 – إلى إلغاء السلطنة العثمانية في 1 نوفمبر 1922) حدثًا جيوسياسيًا جرى بعد الحرب العالمية الأولى واحتلال إسطنبول من القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية في نوفمبر 1918.

وكانت دولة الخلافة العثمانية الدولة الإسلامية الرائدة من الناحية الجيوسياسية والثقافية والأيديولوجية، وأدى تقسيمها بعد الحرب إلى قيام عدة دول جديدة، وهي التي نراها اليوم والتي انضمت فيما بعد إلى جامعة الدول العربية وكذلك منظمة العالم الإسلامي.

منحت عصبة الأمم لفرنسا الانتداب على سوريا ولبنان، ولبريطانيا الانتداب على بلاد ما بين النهرين (فيما بعد العراق) وعلى فلسطين، الذي ضم قسرا شرق الأردن لمدة عامين ثم عاد ليفصلها مجددا إلى فلسطين الانتدابية وإمارة شرق الأردن (1921 – 1946) والتي تم تسليمها للعائلة الهاشمية ليطلق عليها فيما بعد المملكة الأردنية الهاشمية.

وانتقلت ممتلكات الدولة العثمانية في شبه الجزيرة العربية إلى مملكة الحجاز والتي سُمح لسلطنة نجد (السعودية اليوم) بضمها، والمملكة المتوكلية اليمنية، وتم ضم ممتلكات السلطنة على الشواطئ الغربية للخليج العربي إلى السعودية (الأحساء والقطيف)، أو بقيت محميات بريطانية (الكويت والبحرين وقطر) وأصبحت دولًا على الخليج العربي.

بعد الانهيار الكامل للحكومة العثمانية، أجبر ممثلوها على توقيع معاهدة سيفر سنة 1920، والتي كانت ستقسم الكثير من أراضي تركيا الحالية بين فرنسا والمملكة المتحدة واليونان وإيطاليا إلا أن حرب الاستقلال التركية جعلت القوى الأوروبية تعود إلى طاولة المفاوضات وتتفق على معظم القضايا الإقليمية مجددا؛ فصادق الأوروبيون مع مجلس الأمة التركي الكبير على معاهدة لوزان الجديدة في 1923، التي حلت محل معاهدة سيفر المذلة، ولكن بقيت مسألة النزاع على الموصل بين المملكة العراقية وجمهورية تركيا إحدى المشاكل التي لم يحسم أمرها إلا سنة 1926 داخل عصبة الأمم.

وقد عملت بريطانيا وفرنسا على إبقاء سيطرتهما على معظم الدول التي خرجتا منها من خلال دعم الأقليات الطائفية كما هو الحال في محمياتها في العراق، وتقسيم سوريا على أسس طائفي كان جزءا من استراتيجية أكبر لضمان التوتر في الشرق الأوسط. [منقول بتصرف].

ولقد كان للغرب أدوات فاعلة ومؤثرة جداً في تقسيم العالم العربي والإسلامي من داخل جسد الأمة، وبكل تأكيد تعلم أخي القارئ ما قام به رجل المخابرات البريطانية المدعو “لورنس العرب” وتنقلاته بين الجزيرة العربية ومصر والأردن وسوريا، ودوره في ما يسمى بالثورة العربية الكبرى ضد دولة الخلافة العثمانية، ودور الشريف حسين وغيره من قادة هذه الثورة المزعومة لينتهي المطاف بسقوط دولة الخلافة العثمانية واحتلال فلسطين من قبل الجيش البريطاني ليشجع إعلان بلفور الحركة الصهيونية العالمية للتحرك لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم ليتم تسليم فلسطين على طبق من ذهب لليهود في مسرحية هزلية يقودها سبعة جيوش عربية بقيادة “البريطاني كلوب باشا” وليسدل الستار على ما يسمى “بيوم النكبة” التي سقط فيها 56 ٪ من أرض فلسطين بمباركة من عصبة الأمم المتحدة التي يسيطر عليها الغرب وبمباركة عربية سرية ورفض عربي في وسائل الإعلام، ولست بحاجة لإثبات علاقة الكثير من القادة العرب مع دولة الاحتلال الصهيوني، ويكفيني ما كشفته أروقة المخابرات البريطانية والأمريكية والصهيونية عن علاقة الملك حسين وولائه لهم واتصالاته لإنقاذ دولة الاحتلال في حرب 1973، ودور الملك الحسن الثاني، والقائمة تطول.

ثم جاءت لحظة الحقيقة التي لم يعد للمحتلين طاقة في إخفائها ليبدأ الطلب من هذه الأنظمة الوظيفية لتعمل على تطبيع العلاقات السياسية مع دولة الاحتلال فيما يسمى جهود ومعاهدات السلام بين جامعة الدول العربية ودولة الاحتلال لإنهاء ما تدعيه الأنظمة (الصراع العربي الإسرائيلي).

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، بُذلت جهود موازية لإيجاد شروط يمكن على أساسها الاتفاق على ما يسمى السلام بين الدول العربية ودولة الاحتلال الصهيوني، بدءاً بمعاهدة السلام المصرية مع دولة الاحتلال عام (1979).

وفشلت الجهود في تنفيذ اتفاقيات السلام اللبنانية مع دولة الاحتلال عام (1983)

ولكن من أجل إيجاد مبرر أمام الشعوب العربية والإسلامية، والإبقاء على الأنظمة الوظيفة وحمايتها من ثورة الشعوب كان لا بد أن يكون الفلسطيني تحديدا في مقدمة المطبعين، ولهذا صنعوا مؤتمر مدريد للسلام مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1991 الذي جاء بسلطة أوسلو لتصبح الحارس الأمين لحدود دولة الاحتلال المزعومة. ثم تم إبرام المزيد من المعاهدات، منها معاهدة السلام الأردنية مع دولة الاحتلال الصهيوني عام (1994)، وبعد ذلك تم فتح مكتب تجاري “تنسيق” في قطر عام 1996، واتفاقيات أبراهام التي تطبع العلاقات بين دولة الاحتلال وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين عام (2020)، واتفاقية التطبيع بين دولة الاحتلال والسودان (2020)، واتفاقية التطبيع بين دولة الاحتلال والمغرب عام (2020).

بالإضافة إلى ذلك أقام العديد من أعضاء جامعة الدول العربية علاقات شبه رسمية مع دولة الاحتلال بما في ذلك سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية، والحبل على الجرار كما يقال.

وسمحت هذه الأنظمة للمستوطنين بزيارتها والإقامة فيها وفتح مشاريع استثمارية على أراضيها ليسهل عليهم السيطرة على اقتصاد هذه الدول وخيرات شعوبها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر بدأت الصناديق السيادية الكبيرة في الإمارات بما في ذلك جهاز أبو ظبي للاستثمار، بتقسيم هذه الاستثمارات فيما بينها. لكنَّ الصندوق الأول الذي سيدخل سوق دولة الاحتلال “أبو ظبي للتنمية”، التابع للمجموعة “القابضة” (ADQ)، إذ بدأ باستثمار 200 مليون دولار عام 2022 في شركات إسرائيلية، فضلاً عن مبلغ مماثل سنوياً على مدى 10 أعوام.

وللأسف الشديد لا يزال الكثير من أبناء الأمة مخدوعين بهذه الأنظمة الوظيفية، وهذا نتاج الغزو الفكري والثقافي والاجتماعي لتفريغ شعوب الأمة من انتمائها وولائها لدينها وأمتها إلى الولاء للعَلم والحدود التي رسمها لهم “سايكس وبيكو” والتي لم يكن لنا كشعوب أي إرادة أو يد في هذه الحدود المصطنعة.

ولن تعود هوية الأمة ولا سلطانها إلا بزوال هذه الأنظمة الوظيفة وهدم كل ما بني على حدود “سايكس وبيكو” من جيوش ومؤسسات لم تكن في يوم من الأيام لها علاقة بالإسلام والمسلمين.

هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا 

لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى