تلخيص كتاب “سؤالات تحكيم الشريعة” للدكتور فهد العجلان ومشاري الشثري مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ

من مشاركات القراء

فرض الله تبارك وتعالى الحكم بما أنزل، {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]، ونفى الإيمان عمن لم يحكم رسوله عليه الصلاة والسلام {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ووصف بالكفر والظلم والفسق من لم يحكم بما أنزل، قال تعالى:

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].

وقد مضت قرون طويلةٌ وشريعة الله هي الحاكمة وإن انحرف الحكام أو جاروا في بعض الأمور أو القضايا إلا أن تحكيم الشريعة لم يكن محل أخذ ورد بل مُسلّمٌ به لا يُقابل بغير الإذعان.

ثم غزا المستعمرون بلاد المسلمين وعملوا على تنحية الشريعة عن الحكم وأكمل أذنابهم وأزلامهم ما بدأوه فنحيت الشريعة عن الحكم وحل بدلًا عنها قوانين وضعية مصادمة في معظمها للكتاب والسنة.

وأخذ الدعاة والعلماء والمصلحون يطالبون بإعادة الشريعة إلى الحكم وجعلها إمام الأمة في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، فقابل هؤلاء جماعةٌ من المتربين على عين الاستعمار والراضعين لخبثه وحقده فأثاروا عدة إشكالات يزعمهم على تطبيق الشريعة.

وكتاب اليوم الذي بين أيدينا يناقش ثمانية من هذه الإشكالات والكتاب بعنوان ((سؤالات تحكيم الشريعة)) للدكتور فهد بن صالح العجلان والشيخ مشاري بن سعد الشثري.

الإشكال أو السؤال الأول: الشريعة الغامضة:

وهو متعلقٌ بوجود تفسيرات متعددة لتحكيم الشريعة لا يمكن معها الاعتراف بوجود معنىً واضح لمفهوم تحكيم الشريعة والجواب على هذا السؤال يكون بعدة أمور:

1_ حتمية الاختلاف بين الشرع والقدر، فالاختلاف أمرٌ لا بد منه {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] والله الذي قدر ذلك هو الذي أنزل الشريعة ليُتحاكم إليها فهذا السؤال منازعةٌ لله فيما قدره وأمر به.

وقد عالج القرآن ذلك بوجوب الرجوع إلى الوحي عند التنازع فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.

2- تعدد تفسيرات المفهوم لا يلغي فعاليته:

فكل المفاهيم والقيم التي تسود بين الناس تجري فيها الاختلاف والتنازع ولم يقل أحد في يوم من الدهر أن وجود هذا الاختلاف يستلزم إلغاءها.

٣- الشريعة ليست لغزًا:

فالتحاكم إلى الشريعة فرض قد بينه الله وأحكمه وأمضت الأمة قروناً طويلةً وهي تحكم بالشريعة، والخلاف في الشريعة يتضح بإدراك ثلاثة مستويات:

 

أ- أن ثمة مساحة قطعية من الشريعة ليس فيها أي خلاف وهي مساحة شاسعة.

ب- الأحكام الشرعية التي وقع فيها الخلاف تقع في إطار فقهي معين لا تتجاوزه.

ج- جاءت الشريعة بمنهجية علمية لكيفية التعامل مع الاختلاف وطرائق تحرير القول الأقرب للصواب وهو منهجٌ قطعيٌّ لا اختلاف فيه.

السؤال الثاني:

الشريعة الموظفة وهو يشير إلى أن تحكيم الشريعة أصبح أداة توظيفٍ بيد السلطات المستبدة لممارسة عدوانها على الحقوق باسم الدين.

والجواب: أن التوظيف ليس حكراً على الشريعة دون غيرها فكل القيم والمعاني يمكن أن توظف، فالحاكم الظالم يمكنه في سبيل ستر مظالمه وتحسينها أن يتدثر بالشريعة أو بالديمقراطية أو الحرية أو العدالة أو القبلية أو الإنسانية.. إلخ.

ثم إننا إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر وجدنا أن الحالة الأضخم والأكبر للتوظيف في النظم العربية والإسلامية لم تكن للشريعة بل كانت للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

فالتوظيف يعالج بإلغاء التوظيف لا بهدم الفكرة من أصلها همن يستغل المرضى والفقراء لأكل أموال الناس بالباطل فالحل أن تضمن وصول الأموال إلى الفقراء لا أن تقطع المال عنهم ((إن علاج توظيف الشريعة أو أي معنى حسن يكون بتحقيق ضمانات وآليات وخطط تضمن تطبيق الشريعة على الوجه الذي أمرنا الله تعالى به وتمنع مسالك التوظيف من الوصول إلى مبتغاها)).

السؤال الثالث: الشريعة التاريخية ويقصد به أن الشريعة قد حكمت في تاريخ له ظروف وأدوات مختلفة عن واقعنا المعاصر وأدواته وتحدياته.

والجواب: أن الدعوة إلى تحكيم الشريعة ليست دعوةً إلى استنساخٍ تاريخيٍ يطابق فيه بين ماض وحاضر، وليست دعوة إلى نماذج سياسية معينة يستلزم تطبيقها هدم جميع النظم المعاصرة وتفكيك مؤسساتها فهذا التصور بعيد جداً عن الشريعة وواقعيتها وطبيعة أحكامها وتطبيق الشريعة يراعى فيه المصالح والمفاسد وهذا معنى القدرة الشرعية ((فليس المقصود بالاستطاعة إذًا قاصرٌ على القدرة الحسية على الفعل بل يجب أن يكون مع تحقق القدرة عليه ضمان أن يكون تطبيقه للشرعية واقعًا على وجه لا يفضي إلى مفاسد أعظم مما يرجى من مصالح)).

السؤال الرابع: الشريعة المطبقة فيزعم هذا الصنف أن الشريعة مطبقةٌ فالناس لا يحجزهم عن العبادات شيءٌ فهم يصلون ويصومون ويزكون ولا يملك أحد منعهم من ذلك.

والجواب: أن هذا قصورٌ في فهم معنى تحكيم الشريعة وقصورٌ في معرفة شمول الشريعة

فهو يتكلم عن تطبيق للشريعة في مساحتها الآمنة المتعلقة بالعلاقة الفردية بين العبد وربه لكن هذا إنما يقع في سياق التعبد الفردي المحض الذي لا يمس النظام ولا يؤثر على القانون ولا يصل لحد الإلزام والحكم.

السؤال الخامس: الشريعة المختزلة: ويراء بإثارته الاعتراض بأن مفهوم تحكيم الشريعة اختزل في مفاهيم محددة واجتهادات معينة ورؤى ضيقة.

وقبل الجواب لا بد من التأكيد دوماً على ضرورة الشمولية في المطالبة بتحكيم الشريعة وألا يفرط من تلك المطالبة شيء من أحكامها، فتحكيم الشريعة هو الرجوع إليها في شؤون الحياة كافة بما يحقق سعادة الناس في دينهم ودنیاهم ويحقق لهم العدل والأمن والخير.

ثم الجواب: أنه عندما يكون عند أحد قصورٌ أو اختزالٌ في الشريعة فالموقف الصحيح أن نصحح هذا القصور ونقوم هذا الخلل حتى نعزز أصل حاكمية الشريعة.

فإن كان ثم اختزال فالمطلوب أن نوسع المطالبة لتشمل الشريعة كلها.

السؤال السادس: الشريعة المشوهة.

وهو يقرر أن التطبيقات المعاصرة لتحكيم الشريعة كلها مشوهة فالمطالبة بتحكيمها إنما هو سعيٌ في مزيدٍ من التطبيقات المشوهة.

والجواب: أن وجود التجارب المشوهة يقتضي التشديد على ضرورة تطبيق الشريعة التطبيق الأمثل وأن نجتهد في تحقيق الضمانات التي تحقق هذه الحاكمية ونقف في وجه كل الوسائل التي تحول دون التطبيق الشرعي الصحيح.

 

السؤال السابع: الشرعية المنتجة للنفاق.

ويقر أن إلزام الناس بالشريعة يجعل المجتمع منافقًا يفعل في السر ما يجتنبه في العلن خشية العقوبة وهذا منافٍ لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].

والجواب: أن نفي الإكراه هو على الدخول في الدين أما الإلزام بالشريعة فلا تدل الآية على نفيه بحال ففي الشريعة كثيرٌ من الأحكام الملزمة من أوامر ونواه.

والحق أن هذا السؤال فيه تأثر بالعلمانية التي ترى أن الدين علاقة روحية بين العبد وربه فقط ولا يتدخل في شؤون الحياة.

ورفض الإلزام له يؤدي في النهاية إلى إلغاء أي إلزام في الشريعة، والنفاق لا ينشأ إلا في حال قوة الإسلام ومنعته وأما حال ضعف الإسلام فلن يحتاج أحد إلى النفاق وعليه فمن يريد إلغاء النفاق فعليه أن يعطل الإسلام ويضعفه.

تم هذا السؤال ينطوي على عدم إدراك مفهوم النفاق.

فهل منع الناس من المحرمات سيفضي بهم إلى النفاق؟ ولو أطبقوا فرضًا على فعلها سراً فهل يعد هذا نفاقاً؟

ليس هذا من النفاق في شيء فلو انتقل جميع الناس إلى فعلها سرًا لم يكن هذا نفاقاً.

كما أن من يثير هذا السؤال يصور الناس وكأنهم يلاحقون الحرام سواء كان مدعومًا من قبل النظام أو ممنوعاً منه، ويوهم أن نشر الفساد ودعمه والترويج له أو منعه وتحذير الناس منه ليس له أي أثرٍ في ممارسة الناس له، وهذا كله مغالطة في قضايا ظاهرة ومكابرة في حقائق، فمنع الحرام لا يحرض الناس على مفارقته في السر بل هو مساعد للنفوس لأن تقلع عنه كما أن نشره في العلن يساعد النفوس على تقبله والسقوط فيه.

وهل هناك عاقلٌ يقول مثلاً بإلغاء قوانين السير مثلاً لأنها تجعل الناس يلتزمونها في العلن دون السر.

السؤال الثامن: الشريعة التقليدية.

ويقرر هذا السؤال أن تطبيق الشريعة يعتبر انتهاكاً صريحاً للحريات لأنه مفهومٌ تقليديٌّ لا يراعي التطور الفكري والتنامي الحضاري والدولة يجب أن تحكم بما يكفل حفظ الحريات والحقوق.

والجواب: أن العبرة بكون الشريعة من عند الله ولا عبرة بالقدم والجدة فهذا ليس معيارًا للحق أو الباطل.

والحريات ليست مفهوماً كونياً واحداً متفقًا عليه بين جميع الثقافات فليس ثمة حريةٌ مطلقةٌ بل إن الحريات دومًا مقيدةٌ بالقانون وبمصلحة الجماعة.

فحين يقال ((الشريعة تنتهك الحريات)) فهذا حديث عن انتهاك للحريات وفق منظور معين، ولا يعيب الشريعة أن تنتهك مفهومًا معينًا للحريات، بل إن هذه سمةٌ ضروريةٌ لا بد منها لثقافةٍ عظيمةٍ عريقةٍ لها أصولها الفكرية.

فالانتهاك المدعى ليس جارياً على سنن الشريعة أصلاً بل هو انتهاك وفق الرؤية الليبرالية المناهضة للإسلام.

وبعد هذا العرض كانت الخاتمة وقد اشتملت على ثلاث حقائق راسخة:

الأولى: قطعية تحكيم الشريعة.

الثانية: كيفية تحكيم الشريعة.

الثالثة: واقعية تحكيم الشريعة.

إن القلوب المؤمنة الموقنة لا تعدل بحكم الله تعالى حكم غيره كائنًا من كان {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].

وختاماً: فهذا الكتاب على وجازته قد اشتمل على أهم الاعتراضات المثارة على تحكيم الشريعة وأجاب عليها إجابةً وافيةً ولذا تمس حاجة طلبة العلم والدعاة والمثقفين والسياسيين الإسلاميين إلى قراءته والانتفاع به.

والحمد لله رب العالمين.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٧١ – شوال ١٤٤٦ هـ

لتحميل نسختك من مجلة بلاغ  اضغط هنا  أو قم بزيارة قناتنا على تطبيق التليجرام بالضغط هنا 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى