الأسير (1) – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٥ – رجب ١٤٤٤هـ
الأستاذ: غياث الحلبي
أطلقت أم هاني زغرودة طويلة عندما علمت أن ابنها قد تخرج في جامعته وحان الوقت لتخطب له فتاة تناسبه فتقر عينها حين ترى ابنها عروسا، ثم تتضاعف فرحتها عندما ترى أولاده ينادونها “تي تا”، فتلاعبهم وتقدم لهم السكاكر فينهالون على كفيها لثما وتقبيلا.
وكعادة أي أم تشرع بالخطبة لابنها وضعت أم هاني شروطا يجب أن تتوفر في الفتاة التي تخطبها، وإن شئت الاختصار فيمكن القول أن هذه الشروط لا تجتمع إلا في فتاة توجد حيث توجد العنقاء!، ولا تسل عن الجهد الذي كانت تبذله أم هاني في البحث عن العروس المناسبة لابنها، فدونه ما يبذله علماء الآثار في التنقيب عن العاديات.
ورويدا رويدا أخذت أم هاني تخفض سقف مطالبها حتى ظفرت بما تريد، فوجدت فتاة جميلة مؤدبة متعلمة من أسرة محترمة، وتمت الخطوبة وتلاها عقد القران، ثم كان حفل الزفاف الذي كان هاني كأي شاب ينتظره بفارغ الصبر، ويعُد الثواني ارتقابا له كما يرتقب الصائم في شدة القيظ غروب الشمس.
وغمرت السعادة والحب عش الزوجية الصغير وأحس هاني أن الدنيا ابتسمت له ابتسامة لا عبوس بعدها، وأن السعادة ألقت عصاها واستقر بها النوى في بنائه، وأن الفرح اتخذ من بيته مقرا يلازمه ملازمة الظل.
كانت المظاهرات تعم أرجاء سوريا مطالبة بداية بالإصلاحات وإطلاق الحريات والتخلي عن سياسة العنف والاستبداد، غير أن هذه المطالب لم تقابل إلا بضدها وبنقيضها، فكانت أغصان الزيتون التي يحملها المتظاهرون تواجه بالهروات، والأزهار الجميلة تقابل بعصي الكهرباء والقنابل الدخانية، وصيحات الحرية تخنق بزَجِّ الهاتفين لها في الأفرع الأمنية المظلمة الموحشة كالقبور، مما دفع المتظاهرين إلى رفع سقف مطالبهم والمطالبة بإسقاط النظام ومحاسبته ومجرميه وإعدام الرئيس، وزادت وحشية المجرمين واختفت الهروات وعصي الكهرباء والقنابل الدخانية لتحل محلها البنادق برصاصها الحي والرشاشات والمضادات الجوية.
لم يكن هاني يريد الدخول في هذا الصراع المتقد، فهو سعيد في بيته ولا يريد أن يعكر صفو سعادته شيء، غير أن ضميره كان شديد الوخز له، والمقاطع التي ينشرها النظام بشكل غير رسمي عن تفنن زبانيته في تعذيب المعتقلين وقمع المظاهرات، أو المقاطع التي يتمكن الناشطون من توثيقها، كانت تدفعه دفعا لاختيار الصف الذي سيقف فيه.
كان صراعا داخليا رهيبا؛ إما المغامرة والدخول في المجهول، وإما حياة الأنعام، ووجد هاني بغيته عند فئة من الناس اتخذت من شعارات “الله يظهر الحق”، و”الله يطفيها بنوره”، و”هذه فتنة”، و”القاتل والمقتول في النار”، و”إسرائيل تريد إشعال حرب داخلية لتظل السيد في المنطقة” ستارا لجبنها وتعلقها بالدنيا وخذلانها للمظلومين، وبمثل هذه الأمور استطاع هاني إسكات ضميره وإقناع نفسه، أو هكذا زعم، وظل ملتزما بعمله متجنبا لكل ما يمكن أن ينغص عليه صفو حياته.
تطورت الأمور فأخذت قوات النظام تنسحب من المدن والقرى ثم تجتمع وتحشد قواها مجددا وتشن حملات ضخمة لاستعادة السيطرة عليها، وأثناء تلك الحملات تقوم بأعمال إجرامية وحشية لإرهاب الناس وحملهم على التخلي عن الثورة.
وفي ذات يوم كئيب، وقبل أن تطلع الشمس من خدرها، كانت الدبابات والمجنزرات تطوق قرية هاني وخلفها مئات الجنود المدججين بالسلاح يقومون بتمشيط القرية.
ساور الخوف قلب هاني غير أنه حاول أن يطرده عن نفسه قائلا: أنا لم أفعل شيئا وليس لي علاقة بشيء، لم أخرج بمظاهرة ولم أشترك بهتاف ضد النظام، وليس لي علاقة بأحد من الثوار.
كان الجنود يقتحمون البيوت بوحشية عز نظيرها، وبذريعة التفتيش يسرقون ما خف حمله وغلا ثمنه، وحتى لا يفكر أحد باعتراضهم يسُبُّون كل من في البيت ويضربونهم، وإن وجدوا في البيت شيئا له علاقة بالثورة والثوار فإن الرجال الذين في البيت يُقتلون مباشرة أمام أهلهم، وإن لم يوجد فيساقون جميعا إلى ساحة القرية.
كان هاني يراقب من ثقب في شرفة منزله عمليات التفتيش بقلق بالغ حتى وصل الدور إلى بيته، ولم يكن يريد شيئا أكثر من تركه وشأنه ولو سرق الجنود كل ما في البيت.
اقتحم الجنود البيت وبدؤوا عملية التفتيش -أعني التعفيش والسرقة-، ولما رأوا هاني انهالوا عليه بألوان الضرب وأقذع الشتائم، كما أن بعضهم لم يفته أن يغازل زوجة هاني بأسلوب وقح، وأحس هاني وهو يسمع الكلمات التي توجه لعروسه بأن خناجر تخترق صدره وتمنى من كل قلبه أن يقتلوه في أرضه على أن يسمع هذا الفحش يوجه لحرمه، وسرعان ما وُضع رأسه في سترته وقيدت يداه خلف ظهره وسيق خارج المنزل، وسمع عروسه تتوسل إليهم أن يتركوه وشأنه وتقسم أغلظ الأيمان أنه لا علاقة له بشيء، فقال لها أحدهم: انسيه وتزوجي غيره، ما رأيك فيَّ يا حلوة؟ واستمرت بالرجاء والتوسل، فضربها أحدهم بأخمص البندقية على وجهها، وكان آخر ما سمعه هاني صراخ زوجته عند ذلك وهي تسقط أرضا.
وقف هاني في الساحة مع عدد من رجال القرية، وبين الفينة والأخرى كان بعض الجنود يتسَلَّون بتعذيبهم، وأحيانا يطفؤون السيجارة في لسان أحدهم، وتارة يدفعون بأخمص بنادقهم في ظهورهم، وثالثة يركلونهم بأحذيتهم العسكرية الثقيلة، مع سيل هادر من أقذع السباب وأفحش الشتائم.
ولما فرغ المجرمون من تفتيش القرية وتعفيشها جاء الضابط إلى الرجال المجموعين في الساحة وخاطبهم بلكنته العلوية المقززة: أنتم إرهابيون، خنتم الوطن، أنتم عملاء لإسرائيل، وتريدون أن تدمروا الوطن الذي أطعمكم خيراته وأحسن إليكم، والآن سوف نجعلكم عبرة لكل خائن ولكل عميل باع وطنه وضميره.
وحاول بعض الرجال أن يتكلم ويدافع عن نفسه غير أن الضابط صرخ فيه: اخرس أيها القذر، وانهال عليه بعض الجنود لكما ثم ركلا.
قسم الضابط رجال القرية قسمين؛ قسم أجلسوا على ركبهم، ثم أفرغ في رأس كل واحد منهم رصاصة، ثم ألقيت جثثهم في آبار القرية، وأما القسم الثاني فحشروا كالدواب في سيارة كبيرة وهم بِشرِّ حال، وانطلق بهم إلى فرع أمني.
شعر هاني أنهم وصلوا عندما وقفت السيارة قليلا وتبادل سائقها الحديث مع الحراس، ثم انحدرت سائرة قرابة مائتي متر، وتناهى إلى أسماع الرجال في السيارة صراخ المعذَّبين وسباب المعذِّبين وأصوات السياط تلهب الظهور وتشوي الوجوه وتسلخ الجلود.
فتح الباب وبدأ إنزال المعتقلين الجدد، وإن شئت الدقة فقل: رميهم ليسقطوا جميعا على وجوههم؛ إذ إن تقييد أيديهم خلف ظهورهم منعهم من الاتقاء بأكفهم، ويتزامن مع سقوطهم أرضا سقوط الكرابيج والهروات على أضلاعهم ورؤوسهم، ثم يساقون إلى غرفة صغيرة لأخذ بياناتهم وتدوينها وتجريدهم من كل شيء سوى ثيابهم الداخلية، حتى أسماؤهم يجردون منها ويطلق على كل واحد منهم رقم.
ولما جاء الدور على هاني سئل عن اسمه ودراسته، فلما أخبرهم قال أحدهم له: ومثقف كمان يا ع…، أنت واحد حقير، الدولة علمتكم واهتمت بكم ثم تآمرتم عليها، وأراد هاني أن يقول له: إنه لا علاقة له، غير أن كثرة الضرب منعته، ثم جُرد من كل شيء وأنعم عليه برقم 231، وسيق إلى زنزانة مكتظة فرمي بها، وكان المكان الذي يشغله فيها أضيق من صدر اللئيم وأنتن من أفواه النصيريين.
ألقى هاني رأسه بين ركبتيه وراح يفكر، ترى كيف حال زوجتي الحبيبة الآن؟ آمل ألا تكون تلك الضربة قد آذتها، ذلك الوغد ليت يده قطعت، وذلك الوقح الآخر ليتني أطبق بأسناني على عنقه حتى أقتله، ليتني أستل لسانه وأجعله طعاما للكلاب، كيف تجرأ أن يخاطب زوجتي بتلك الوقاحة.
آه، هل سأكون قرب زوجتي عندما تلد، أم أن المقام سيطول بي هنا، بل هل سأخرج حيا أم سأوَدِّع الحياة في هذا المكان القذر، هل سترى عيناي طفلي المرتقب؟ هل سأتمكن من ضمه إلى صدري وشمه وتقبيله ومداعبته؟
بل كيف حال أمي الحنون، لهف قلبي عليها، سيتمزق قلبها حزنا على ابنها الوحيد الذي تعبت ونصبت حتى كبر وصار شابا متعلما، ثم جاء حثالة البشر، فاقتادوه صاغرا ذليلا وأذاقوه المهانة ألوانا وجرعوه الذل أنفاسا.
رباه، فرج عني، رباه لا طاقة لي بمثل كل هذا العذاب، كن معي يا الله، عَجِّل بإطلاق سراحي، ردني إلى أمي وزوجي وولدي، رفقا بحالي يا الله، رفقا بقلب أمي الكسير، رفقا بزوجي الضعيفة، رفقا بجنين لا يزال في أحشاء أمه، رباه، رفقا يا رباه.
* نهضت ميساء زوجة هاني بعد أن غادر المجرمون الدار مصطحبين معهم هاني وهي تتحسس مكان الضربة التي نالت وجهها بأخمص البندقية، كانت الدماء تسيل من فمها إضافة إلى انتفاخ وزرقة في عينها اليسرى، ومع أن الألم كان شديدا غير أنها لم تكن تهتم لذلك، فقد كان مسيطرا على فكرها حال زوجها هاني، إلام صار؟ وأين سيذهبون به؟ وهل سيتأخر في العودة؟ هل سيعذبونه؟ بل لماذا اعتقلوه أصلا؟ أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنها حول هاني أشغلتها عن نفسها بل عن جنينها المتكور على نفسه في أحشائها في شهره السادس، وعندما عاد إليها شيء من نفسها أخذت تتلمس بطنها لتطمئن أن الجنين لا يزال بخير.
– أرجو ألا يكون قد أصابه مكروه، أي قلوب يحملها هؤلاء الأوغاد في صدورهم؟ مسكين أنت يا هاني، أين أنت الآن يا ترى؟ أأنت بخير؟ ليت هذا يكون حلما، كابوسا، أستيقظ منه لأجد هاني راقدا بقربي بعينيه الغافيتين، ليتني أصحو على لمسته الحانية وهو يطلب مني أن أعد له قهوته وطعامه، وأخذت الدموع تنهمر على وجهها بغزارة لتبلل حجرها.
ملأت أصوات الصراخ والنياحة أرجاء المكان، فقد انسحب المجرمون من القرية بعد أن ارتكبوا مجزرتهم الشنيعة، وخرج النساء من البيوت ليشهدوا أزواجهم وآباءهم وأبناءهم وإخوانهم صرعى قد أُلقوا في الآبار أو جمعت جثثهم فوق بعضها لتشكل تلا صغيرا.
وتوافد الرجال من القرى المجاورة ليعينوا هؤلاء في مصابهم، فكانوا يستخرجون الجثث من الآبار ويصُفُّونها حذاء بعضها حتى يتسنى لذوي القتلى التعرف عليهم.
ولا تسل عن مبلغ الألم والحزن حينما تتعرف امرأة إلى جثة زوجها أو ابنها أو أخيها أو أبيها.
ركضت ميساء ملهوفة تنقل بصرها بين الجثث وهي تضع يدها على قلبها مخافة أن يسقط إن رأت جثة هاني أمامها، وتفقدت رتل الجثث مرارا حتى استيقنت أنه ليس فيهم، وأن جميع القتلى قد عُرفوا؛ إذ لم يمر على المجزرة سوى بضع ساعات ولم تشرع بالتغير والانتفاخ.
– هاني لم يقتل إذن، الحمد لله.
وعاد القلق يطرق رأسها بقوة: هل سيقتلونه في مكان آخر ثم يرمون جثته في مقبرة جماعية، ثم لا نعلم عنه شيئا؟
يجب أن أعمل شيئا قبل أن يفوت الأوان، ولكن كيف؟
– أما أم هاني فلم تلبث أن سقطت أرضا لما بلغها الخبر، لتُنقل إلى المستشفى وتمكث فيه بضعة أيام قبل أن يتحسن حالها قليلا، وكانت لا تكف عن ترداد اسم ابنها الوحيد، وتراه في نومها ويتراءى لها طيفه في يقظتها، ولا تنقطع عينها عن الجود بالدمع الذي أوشك أن يتحول إلى دم.
لم تعرف المرأتان أم هاني وزوجه ماذا تفعلان وكيف تتصرفان، حتى قيل لهما أخيرا: اذهبا إلى مدينة حماة واسألا عنه في أفرعها الأمنية، فقد جاءت الأخبار أن الذين اعتقلوا من هذه القرية سيقوا إلى حماة.
ومضت المرأتان لا تلويان على شيء حتى بلغتا حماة، فأخذتا تسألان عن الأفرع الأمنية فترمقهما الأعين بالدهشة تارة وبالشفقة والرحمة أخرى.
دارتا على الأفرع الأمنية في حماة كلها وكان الجواب واحدا، فعندما تصلان إلى الباب وتسألان عن هاني يكون الجواب بالنفي، وقد يُصحب أحيانا بالشماتة بهما وبالإرهابي الذي يسألان عنه، وعندما همتا بالرجوع خائبتين بعد أن يئستا من العثور عليه استوقفهما شبيح تبدو عليه علائم الشرور والخبث وإن حاول أن يستر ذلك بابتسامة مصطنعة وكلمات منافقة، وبعد أن سمع منهما القصة قال لهما:
– الأمر في غاية السهولة، هناك بعض الإجراءات أقوم بها ثم أعلم كل شيء عن هاني، أين هو؟ وما تهمته؟ وماذا حُكم عليه؟ كل شيء، كل شيء.
– لكن والله ابني هاني بريء، من بيته إلى عمله، ومن عمله إلى بيته.
– قد يكون هناك لبس أو خطأ، ربما حدث تشابه أسماء.
– وما العمل الآن يا بني؟
– أعطني: اسمه، وعمره، وعمله، وتاريخ اعتقاله، ومكان الاعتقال، وأنا سأتكفل بالأمر.
– حقا؟ وفقك الله يا بني ووجه لك الخير أينما سرت، أنت ابن حلال، يا رب اجمعني بهاني، يا رب اجمعني بهاني.
– ولكن يا خالة.
– ماذا يا بني؟
– الأمر قد يكلف بعض المال، ولكن ليس لي، أعوذ بالله، أنا لا أريد سوى خدمتكم والثواب من الله، لكن المعاملات لا تسير إلا بالأموال.
– لا مشكلة يا بني، كم تريد؟
– أستغفر الله، قلت لك يا خالة: أنا لا أريد شيئا لي.
– عفوا، أقصد كم يكلف الأمر؟
– حاليا لا أعرف، لكن عسى أن تكفي خمسة آلاف مبدئيا.
– هاك يا بني، هذه عشرة آلاف؛ خمسة لك وخمسة لهم، المهم هاني.
– لا يا خالة، لا أريد أنا شيئا.
– اعتبرهم هدية يا بني، لا ترد هديتي، المهم هاني.
– سآخذهم من أجلك فقط، وخذي هذا رقم هاتفي الجوال واتصلي بي بعد يومين أو ثلاثة على الأكثر.
ولم ينس الشبيح قبل أن يترك المرأتين أن يغمز ميساء بعينه غمزة جعلت جسدها كله ينتفض، وشعرت أن هذا المجرم ينتمي إلى أولئك الأنذال الذين داهموا بيتها وخطفوا زوجها وأسمعوها قبيح الكلام، وهمَّت أن تخبر حماتها غير أنها تريثت وظلت متعلقة بهذا الخيط من الأمل، فقد يكون هذا المجرم صادقا في حديثه، وعلى أي حال فهي لن تتولى الكلام معه لاحقا، وستكل الأمر إلى حماتها.
عادت أم هاني إلى القرية والفرح يرفرف بأجنحته فوقها، وهي تمني نفسها الأماني وتطمع أن تلتقي بابنها قريبا.
وبعد يومين اتصلت أم هاني بالرقم لتسأله عن هاني.
– أهلا خالتي، هاني بخير والحمد لله، وهو حاليا في فرع الأمن العسكري في حماة.
– الحمد لله أنه بخير، وهل علمت لماذا اعتقل؟ ومتى سيفرج عنه؟
– حاليا هو في التحقيق ولا يمكن معرفة ذلك الآن، ربما سيحتاج الأمر أسبوعا أو شهرا، وقد يصل إلى ثلاثة أشهر.
– لماذا يا بني؟ والله هو بريء، لا علاقة له بشيء.
– هذا روتين ولا بد أن يخضع له الجميع إلا إذا استطعنا أن نحصل له على استثناء.
– كيف؟
– هذا يحتاج معاملة معقدة وزيارة عدد من الأفرع للحصول على توقيع عدد من الضباط.
– ألا يمكن أن تساعدني يا بني، أنا امرأة وحيدة، زوجي مات، وهاني هو ابني الوحيد.
– أتشرف بخدمتك يا خالة، ولكن التكاليف مرتفعة، والضباط أولاد حرام، لا يشبعهم شيء.
– ذهلت أم هاني لدى سماعها هذه الشتيمة وخشيت عواقبها، فتظاهرت أنها لم تنتبه إليها، وقالت: يا بني أنا مستعدة لبيع ما فوقي وما تحتي ليعود فلذة كبدي، ولم يخطر في بال أم هاني أنها بذلك تزيد شهية الشبيح شراهة وتسيل لعابه ليبتز منها المزيد من المال، ولم تظن قط أنه يكذب عليها ويخدعها بمعسول الكلام؛ ليستخلص آخر ليرة معها.
وعاد الشبيح يقول: يحتاج خمسة وعشرين ألفا، وأتبع ذلك بسيل من الأيمان بالله والشرف والعرض والمقدسات ورؤوس الأبناء والآباء والأجداد أن قرشا منها لن يدخل جيبه، وأنه لا يريد سوى خدمتها والثواب من الله.
ومرت الأيام والشبيح ينسج الأكاذيب ويقبض ثمنها من أم هاني، ويختلق الأعذار ليستمر في هذه التجارة الرابحة؛ فتارة يقول لها: إنه رأى هاني وقابله وهو يسلم عليها ويطلب منها الدعاء ويسأل عن حال زوجته، وقريبا سيسمح لأهله بزيارته، وأخرى يخبرها أن هناك تقارير كاذبة كُتبت بحق ابنها، تصمه بالتعاون مع الإرهابيين والعمل في صفوفهم، وأن المحقق بات مقتنعا ببراءته ولم يبق سوى بعض الإجراءات ليُعرض بعدها على المحكمة، ويصدر الحكم ببراءته، وثالثة يزعم أنه وكَّل لهاني محاميا يدافع عنه، وأن القضية تسير في الاتجاه الصحيح، وأن المحامي يلتقي بهاني بشكل دوري، غير أن كلفة أتعابه مرتفعة جدا؛ لشدة تعقيد القضية.
ودفعت أم هاني مبالغ طائلة للشبيح دون أن تعثر على طرف خيط، وبدأ الشك يساور فؤادها، بل أضحت مقتنعة أن هذا الشبيح ليس سوى كذاب يقوم باستصفاء أموالها، وزاد يقينها بذلك عندما اتصل بها الشبيح ليخبرها أن الحكم ببراءته صار جاهزا للتوقيع، ولكن الأمر يحتاج إلى مليوني ليرة سورية، وعندها قالت أم هاني بشجاعة وثبات: لن أدفع قرشا من الآن فصاعدا حتى يخرج هاني أو على الأقل أتمكن من زيارته.
– ماذا؟ هل تشكِّين في بعد كل الذي قدمته وفعلته.
– لقد دفعت الكثير دون أي فائدة، حتى إني لم أتمكن من سماع صوت هاني ولو بالهاتف.
– يا خالة، لقد وصلت اللقمة إلى الفم كما يقال، ولا نريد أن يضيع كل الجهد الذي بذلناه حتى وصلنا إلى هذه المرحلة.
– قلت لك: لن أدفع شيئا حتى يخرج هاني، ليخرج أولا ثم أدفع المبلغ الذي تريد.
– كما تشائين، ولكنك بهذا تضيعين كل جهودنا، وتجعلين هاني في خطر، ثم أغلق الشبيح الهاتف ليبدأ في حيلة جديدة يتمكن بها من متابعة استنزافه لأموال أم هاني، بل سيكون الأمر أكبر من الأموال، ولن يقتصر عليها.
وفي اليوم التالي اتصل الشبيح مجددا بأم هاني ليخبرها أن ابنها هاني سيتصل بها وبزوجته، لذا فهو يطلب الرقمين، ولن يكون هناك موعد ثابت للمكالمة، لذا عليهما أن تكونا مستعدتين طوال النهار، وقد تكون المكالمتان في وقتين مختلفين.
ومع أن أم هاني لم تثق بكلامه وعلمت أنه يبحث عن طريقة يتابع فيها أكل أموالها غير أنها أعطته رقم كنتها، قائلة لنفسها: الحق الكذاب إلى وراء الباب.
وبعد يوم كان هاتف أم هاني يرن، وظهر على شاشته رقم غريب، وسرعان ما أتاها صوت رجل يزعم أنه هاني، يظهر أن المرض أنهكه.
– من معي؟
– أنا هاني يا أمي، يا ست الحبايب، ألم تعرفيني؟
– لم يكن هذا صوت هاني، أتراه تغير صوته من هول ما جرى معه، أم أن هذا شخصا ينتحل شخصية هاني بإيعاز من الشبيح، كيف حالك يا بني؟ اشتقت لك كثيرا، قلبي يذوب شوقا إليك.
– الحمد لله، وأنا قد اشتقت لكم، كيف حالك وحال زوجتي؟
– جميعنا بخير، ولا ينقصنا إلا أن نراك.
– سيكون ذلك قريبا إن شاء الله، ولكن هناك بعض المعاملات التي يجب إنهاؤها أولا كما أخبركم الوسيط، بالمناسبة هو قد ساعدني كثيرا.
– وهنا أرادت أم هاني أن تقطع الشك باليقين، وتعلم الأمر على حقيقته، فقالت: عمتك فاطمة تسلم عليك كثيرا، وهي دائمة الدعاء لك.
– حقا، كم هي طيبة القلب، سلمي عليها كثيرا.
– وعمك ثامر لا ينقطع عن زيارتنا، ولا يقصر في مساعدتنا قط.
– إنه أصيل كأبي، أسأل الله أن يعينني على رد الجميل له، أمي انتهى الوقت المسموح لي به، أرجوك يا أمي تعاوني مع الوسيط لينهي لي المعاملة حتى أرجع إليك وأشعر بدفء حنانك، اشتقت لك ولزوجتي كثيرا، مع السلامة.
انقطع الاتصال فجأة وكأن أحدا جذب الهاتف من يده، وعرفت أم هاني أن المتكلم لم يكن ابنها قط، فلا توجد عمة له اسمها فاطمة ولا عم اسمه ثامر..
يتبع في العدد القادم إن شاء الله.
لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا
لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا