مستقبل الثورة السورية في ظل تغيرات السياسة التركية – كتابات فكرية -مجلة بلاغ العدد ٤٠ – صفر ١٤٤٤ هـ

الأستاذ: حسين أبو عمر

تكاد تتفق تحليلات كل الباحثين والخبراء على أن السياسة التركية ماضية باتجاه التطبيع مع النظام النصيري، وأن التصريحات التي خرجت مؤخرا من شخصيات كبيرة في التحالف الحاكم في تركيا تعبر عن التوجه الحقيقي للسياسة الخارجية التركية، وأنها ليست مجرد بالونات اختبار أو تصريحات تخاطب الداخل التركي.

في مقاله ((تصريحات جاويش أوغلو: هل ستتصالح أنقرة مع دمشق؟))، قال سعيد الحاج، الباحث المميز في الشأن التركي: «تحول أنقرة لقبول حل سياسي يشمل بقاء النظام والعمل على مصالحة بينه وبين المعارضة المدعومة تركياً يبدو أمراً متوقعاً ومتناغماً مع التطورات الميدانية والتصريحات السياسية من المسؤولين الأتراك مؤخراً.

وفي هذا الإطار، لا ينبغي فهم التصريحات التركية على أنها بالونات اختبار تحضيراً لمرحلة قادمة، وإنما تعبيراً عن تغير في التوجهات قد حصل وينتظر التبلور في خطوات ملموسة على أرض الواقع، قريباً أو لاحقاً حسب ما تفرض الظروف».

هذا التغير في السياسة الخارجية التركية ليس مقتصرا على العلاقة بالثورة السورية، أو النظام النصيري، بل شمل معظم السياسات الخارجية التركية. فبعد فترة من العلاقات المتوترة مع دول كثيرة: الولايات المتحدة، كثير من دول الاتحاد الأوروبي، إسرائيل، السعودية، الإمارات، مصر… وتوسع عسكري مفرط في أكثر من قارة، حتى أصبح لتركيا قواعد عسكرية (في غرب وشمال أفريقيا، في القرن الأفريقي، في الخليج العربي، في سوريا، في العراق، في أذربيجان..) تحاول تركيا منذ بداية العام 2021 العودة إلى سياسة التهدئة على كل الجبهات، العودة إلى سياسة “صفر مشاكل”.

السبب الرئيسي لهذه الانعطافة في السياسة الخارجية التركية هو خشية التحالف الحاكم من خسارة الانتخابات القادمة 2023 بعد خسارة الانتخابات البلدية الأخيرة.

ولذلك، ستبقى سياسة التطبيع والتهدئة مع كل الجهات هي المسيطرة على السياسة الخارجية التركية حتى اقتراب موعد الانتخابات القادمة 2023.

ثم إذا أظهرت استطلاعات الرأي، قُبيل الانتخابات القادمة، احتمالية خسارة التحالف الحاكم للانتخابات فستحصل، غالبا، انعطافة جديدة باتجاه التصعيد الخارجي على عدة جبهات، ومحاولات تحقيق انتصارات واضحة ملموسة للناخب التركي، مع الكثير من الدعاية الديماغوجية، والتبشير بالانتصارات.. لعب الورقة الأخيرة لمحاولة تحشيد الناس على أعداء خارجيين.

أما إن أظهرت استطلاعات الرأي احتمالية فوز التحالف الحاكم في الانتخابات فإن سياسة التهدئة والتطبيع مع كثيرين هي التي ستبقى مهيمنة على السياسة الخارجية، ولن يقتصر الأمر على مرحلة ما قبل الانتخابات فقط، بل حتى بعد الانتخابات أيضا.

إن بقيت سياسة التهدئة هي المسيطرة حتى الانتخابات القادمة 2023 فستتجه السياسة التركية للتطبيع مع الطاغية بشار، والعمل على إنهاء ملف الثورة، حتى وإن فاز التحالف الحاكم.

احتمالية أن يخسر التحالف الحاكم الانتخابات المقبلة ليست قليلة. والمعارضة التركية حتى لو كانت في تصريحاتها تجاه الثورة السورية / التطبيع مع بشار تمارس دعاية انتخابية؛ إلا أنها ستطبق ذلك فعلا في النهاية، إذ ستعتبر هي الأخرى أن العلاقات المتوترة مع الجوار كانت أحد الأسباب الرئيسية لخسارة التحالف الحاكم الانتخابات، ولن تكرر سياسته الخارجية.

* طريقة التعاطي التركي مع المجتمع / الفصائل السورية:

مما يتسم به الساسة الأتراك في علاقتهم مع مجتمعاتنا أنهم لا يقيمون وزنا لآراء ومصير هذه المجتمعات والفصائل، بل كانوا يتحركون دائما في الفضاءات المشتركة بينهم وبين هذه المجتمعات / الفصائل / الهيئات وفقا لمصالحهم فقط، وبشكل منفرد، وحتى دون أن يعلم الطرف الآخر (أصحاب العلاقة) شيئا عن مفاوضاتهم وخططهم ونواياهم..

كما أنهم لم يغيروا تصريحاتهم ولن يغيروا سياستهم بسبب المظاهرات أو البيانات، بل أكدوا على سياستهم الجديدة مرارا، ومن عدة شخصيات مهمة، وبخطوات عملية أيضا؛ فالمظاهرات والبيانات -وإن كانت ضرورية- إلا أنها لن تكون كافية وحدها في ثنيهم عن سياستهم. هنا، ينبغي لنا أن نستحضر طريقة فضهم للمظاهرات والاعتصامات على طريق M4 عندما أرادوا تسيير الدوريات المشتركة مع المحتل الروسي.

والكلام هنا يجرنا لنقطة تتعلق بالداخل، وهي أن الأتراك ما كان لهم أن يفرضوا علينا هدنا، ولا أن يستعملوا القوة في فض المظاهرات، لو علموا أن الكل سيقف ضد هذه الخطوات.. وهذه الخطوة، القبول بوقف إطلاق نار، اعتبرت في “دليل وكالة الاستخبارات الأمريكية لتحليل التمرد” من المؤشرات على إمكانية إجراء مفاوضات بين الحكومة والمتمردين للوصول إلى ما يسمى تسوية تفاوضية، حيث جاء في التقرير: «استعداد الجانبين لقبول وساطة طرف ثالث ومراقبة وقف إطلاق النار».

ومن المؤشرات التي جاءت في التقرير حول إمكانية الوصول للتسوية: «قطع الرعاة الأجانب أو الحلفاء للدعم أو ضغطهم على المتمردين أو الحكومة للتفاوض».

إلى ذات الفكرة كان قد أشار صموئيل هانتنجتون في كتابه “صراع الحضارات”، عندما تحدث عن دور الحلفاء في إيقاف الحرب، قال: «في مرحلة ما من المحتمل أن يجدوا أن من مصلحتهم إيقاف الحرب. ولأنهم إذا تجمعوا حول أقربائهم يكون لهم نفوذ عليهم. وهكذا يصبح المتجمعون عوامل كبح وإيقاف».

ذكر هانتنجتون عدة أساليب قد يستخدمها الحلفاء لإيقاف الحرب، إيقاف الدعم أحدها؛ قال: «سحب الدعم، والحقيقة خيانة الأطراف الثانوية للأطراف الرئيسية».

فإذا استمرت سياسة التطبيع مع النظام النصيري، فربما نشهد في الأشهر القادمة مثل هذا السيناريو من قطع للدعم عن الفصائل، وتضييق على النخب الرافضة للتطبيع وعلى الشعب في الداخل، بالإضافة، غالبا، إلى حملة قصف روسية لكسر إرادة الرافضين للتطبيع المصرين على الاستمرار بالثورة.. قريب من هذا السيناريو كان قد تنبأ به سعيد الحاج في نهاية 2016 في مقاله “تركيا والأزمة السورية.. ملامح مرحلة جديدة”، حيث قال: «تعول روسيا على دور تركي فاعل في بعض السيناريوهات المستقبلية المحتملة في سوريا:

الأول، الحل السياسي بعد فرض وقف إطلاق النار، بحيث “تقنع” أنقرة الفصائل السورية المعارضة بالمشاركة في العملية، في ظل تهديد روسي باستهداف كل من يتخلف أو يرفض».

في الختام، ما زالت الفصائل والكثير من النخب يتعاملون مع هذا الواقع الخطير بطريقة الإنكار، متقاعسين عن اتخاذ خطوات جادة للخروج من هذا المأزق، فواحد مشغول عن التحرك لإنقاذ الثورة بمعهده وحلقاته، وآخر بزيارة نقاط الرباط.. أما أدعياء “الشوكة” فمشغولون في صرف عشرات آلاف الدولارات على “ملعب”.. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى