قراءة في آثار الانتصار الطالباني “السني” على استراتيجية تحالف الأقليات – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٢٨ – صفر ١٤٤٣ هـ
الدكتور: أبو عبد الله الشامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
فإن المتتبع للتاريخ الحديث والمعاصر يجد أن الحرص الغربي على الأقليات بدأ منذ الحرب الروسية العثمانية عام 1854 فقد أولى مؤتمر باريس عام 1856 اهتمامًا خاصًا لوضع اليهود والمسيحيين في الدولة العثمانية كما جعل وليام غلادستون في بريطانيا مجازر البلغاريين في الدولة العثمانية القضية الرئيسية في حملته، وطالب باهتمام دولي، وكان ثمرة ذلك كله انتزاع فرنسا وبريطانيا تنازلات عثمانية على شكل حق فتح قنصليات في بعض حواضر الدولة كحلب وبيروت وجدة مقابل الدعم العسكري، واستمر هذا الاهتمام ذو الغاية الاحتلالية المباشرة عبر عصبة الأمم 1919، وفي هذا يقول القنصل البريطاني في دمشق سمارت: «جرّ الفرنسيون الأرمن واللبنانيين الموارنة والشركس والاكراد والإسماعيليين وجميع الأقليات للمواجهة ضد الإسلام العربي “السني”، ومن المتحقق أن العرب لن ينسوا هذه الحقبة المفجعة» ثم الاحتلالية المباشرة وغير المباشرة عبر الأمم المتحدة وصولًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث وضع أبرز عرَّابي السياسة الأمريكية الخارجية اليهودي “برنارد لويس” مشروعه التفتيتي للعالم الإسلامي من خلال خرائط أوضح فيها التجمعات العرقية والدينية والتي على أساسها يتم التقسيم إلى دويلات وسلم المشروع إلى “بريجنسكي” مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر ليتم اعتماده عام 1983 من قبل الكونغرس وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية المستقبلية، ومن حينها وحتى الآن تتكشف الخطوات التنفيذية التي تعبر عنها النقولات الآتية:
– يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي “بريجنسكي”: «إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى -التي حدثت بين العراق وإيران- تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود “سايكس – بيكو”».
– في كتاب صراع الحضارات الصادر في 1996م يشير المؤلف هنتغتون -الذي يقول إدوارد سعيد بأنه اعتمد بشكل كبير على برنارد لويس- إلى فقرة رئيسية في مقال كتبه “لويس” عام 1990م بعنوان جذور الغضب الإسلامي، قال فيها: «هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد رد فعل تاريخي منافس قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع العالمي لكليهما».
– يقول برنارد لويس: «إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات، وتقوِّض المجتمعات، ولذلك فإن الحلَّ السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة؛ لتجنُّب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الأفعال عندهم، ويجب أن يكون شعار أمريكا في ذلك: إما أن نضعهم تحت سيادتنا، أو ندعهم ليدمروا حضارتنا».
– نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالًا قالت فيه: «إن برنارد لويس “90 عامًا” المؤرخ البارز للشرق الأوسط قد وَفَّرَ الكثير من الذخيرة الإيدلوجية لإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب؛ حتى إنه يُعتبر بحقٍّ منظرًا لسياسة التدخل والهيمنة الأمريكية في المنطقة».
كما قالت نفس الصحيفة: «إن لويس قدَّم تأييدًا واضحًا للحملات الصليبية الفاشلة، وأوضح أن الحملات الصليبية على بشاعتها كانت رغم ذلك ردًّا مفهومًا على الهجوم الإسلامي خلال القرون السابقة، وأنه من السخف الاعتذار عنها».
– في مجلة القوات المسلحة الأمريكية (عدد يوليو 2006)، نشر الضابط الأمريكي السابق “رالف بيترز” مقالة بعنوان: “حدود الدم” هي جزء من كتابه “لا تترك القتال أبدًا”، تضمنت تقريرًا متكاملًا عن الصراعات في الشرق الأوسط، والتوتّر الدائم في المنطقة، والتي يعتبرها “بيترز” نتيجة (منطقية) لخلل كبير في الحدود الاعتباطية الحالية (سايكس بيكو) التي وضعها “الأوروبيون الانتهازيون” بحسب وصفه.
ويُلخِّص نبيل خليفة في كتابه “استهداف أهل السنة” ما سبق بقوله: «إن أهل السنة اليوم في مواجهة العالم المسيحي ( أمريكا وأوربا وروسيا).. والعالم اليهودي.. والعالم الشيعي (الصفوي).. والعالم الهندي.. والعالم الصيني.. وإن الكتلة السنية التي تمثل 1.4 مليار نسمة أصبحت على تماس ومواجهة وصراع مع جميع الكتل الأخرى».
والسبب يعزوه خليفة إلى أطروحات برنارد لويس فيقول: «بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أصبح المسلمون كتلة بديلة عن الاتحاد السوفيتي في صراع القطبين، وما يجري من تحولات جذرية ودراماتيكية يأتي في سياق استراتيجية إقليمية كونية لها ثلاثة أهداف: أولها إزاحة النفوذ السني واستبداله بنفوذ إيراني شيعي (صفوي)، وثانيها دمج إسرائيل كجسم طبيعي في المنطقة ضمن دولة كنفدرالية، وثالثها السيطرة على نفط العراق»، كما ينقل خليفة سببًا آخرًا عن “إيف لاكوست” الذي يقول: «المسلمون فخورون بعظمة دينهم، وهم يرون أن وحدة أمتهم ستجعل منها واحة التقدم ومركز جيوبوليتيكيا يؤثر على البشرية كلها»، ويستنتج خليفة بأن ما سبق يجعل هذه الكتل تدعم الشيعة (الصفويين).. وتتحالف لـ “أبلسة السنة” موضحًا أن خصومة هذه الكتل لا تمنع من تحالفها وتوحدها في عداوة الخطر السني.
* وفي ضوء ما سبق:
– يتضح المخطط الأمريكي المتعلق بتفتيت العالم الإسلامي خاصة بعد حرب الخليج الثانية بقيادة بوش الأب والحرب الصليبية التي قادها بوش الابن في أفغانستان والعراق، ودور تحالف الأقليات وخاصة الصفويين في ذلك.
– كما تتضح أهداف محور الثورات المضادة بقيادة أمريكا في التمكين لحلف الأقليات وخاصة الصهاينة (عبر مشاريع التغريب والتطبيع) والصفويين (عبر تمكينهم من استكمال الهلال الرافضي).
ولذلك كله فإن سقوط كابل بيد قوات إمارة أفغانستان الإسلامية (طالبان) كما أنه كان تتويجًا وثمرة لسنوات طويلة من الثبات على المبادئ والصبر والاستمرار في الجهاد السني الذي يقاوم المحتلين وعملائهم ويحكم شرع الله في أرضه؛ فإنه يمثل حدثًا مفصليًا في تاريخ الأمة الإسلامية المعاصر، وما بعده لن يكون كما قبله بإذن الله تعالى، فآثاره على المخطط الأمريكي وحلف الأقليات كبيرة وعامة ومنها:
1- الرمزية والأنموذج السني الملهم والمحفز الذي:
– استطاع قهر وإذلال المحتل الأمريكي وحلفائه وتوجيه ضربة قوية لحلف الأقليات في أفغانستان وخارجها، يقول الرئيس الأمريكي بايدن في هذا السياق: «قرار الانسحاب لا يتعلق فقط بأفغانستان، بل بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية لإعادة تشكيل بلدان أخرى».
كما نُقِلَ عن مسؤول استخباراتي بريطاني قوله: «تمثل هذه الحقبة بدء نهاية الآيديولوجيا الليبرالية والديمقراطية، والتي بدأت بسقوط جدار برلين».
– بين أن الجهاد هو الخيار الشرعي والواقعي في الصراع مع منظومة دولية جاهلية لا تفهم إلا لغة الدم ولا تحترم إلا أصحاب الأقدام الثقيلة، وأثبت بطلان وعدم واقعية خيار الذل الديمقراطي ومسار الركون والاحتواء والتوظيف والسلمية الزائف والمدمر.
2- وجود الظهير السني الحقيقي (غير الوظيفي) الداعم للشعوب المسلمة وثوراتها على منظومات الحكم العميلة وتحالف الأقليات الصهيوني الصليبي الصفوي، وفي هذا السياق تفهم مواقف الصفويين الحالية وموقف الصهاينة الذي عبر عنه وزير الحرب السابق “موشيه يعالون” بقوله: «لسيطرة طالبان على أفغانستان تداعيات على أمن اسرائيل “الكيان الصهيوني”».
* أخيرًا من المهم التأكيد على أن الانتصار الطالباني السني وجه ضربة قوية للمحتل الأمريكي وحلف الأقليات الصليبي الصهيوني الصفوي، ولكن هذه ليست النهاية بل هي بداية مرحلة جديدة لها تحدياتها الكبيرة -الداخلية والخارجية- في ظل واقع إقليمي ودولي معاد ومتربص يحتاج معه إلى أن تصبح قضية أفغانستان في صدارة قضايا الأمة، وهذا يوجب على المسلمين عامة ونخبهم خاصة القيام بالدعاء لهم بالثبات والتمكين ونصحهم ودعمهم بكافة السبل والأساليب المتاحة وصولًا لنجاح تجربتهم وتحقيق الآثار الإيجابية التي لا تقتصر على أفغانستان المسلمة فحسب بل تشمل أهل السنة جميعًا، والله الموفق.
لتحميل نسخة من مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا
لقراءة مقالات مجلة بلاغ العدد 28 اضغط هنا