نصال الغدر بأكف الضباع – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون ⁨رجب ١٤٤٣ هـ

مجلة بلاغ العدد الثالث والثلاثون رجب ١٤٤٣ هجرية – شباط ٢٠٢٢ ميلادي

الأستاذ: غياث الحلبي

أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة ليلا، وأخذ عدد من الضباط يتوافدون إلى مقر الأمن العسكري في مدينة حمص، سيعقد الليلة اجتماع مهم لمناقشة الحلول المطروحة لوأد الثورة السورية، والتي أخذت تتعاظم شيئا فشيئا لتشمل القطر بأسره، ولم ينجح في القضاء عليها القمع والقتل والاعتقال مع الآلة الإعلامية الضخمة التي لا تنفك تكذب ليل نهار.

تتام عدد الضباط وفيهم عدد غير قليل من الجزارين الذين شاركوا في القضاء على الثورة السورية الأولى في العشرية الثامنة من القرن المنصرم، وهم يريدون اليوم الاستفادة من الأساليب الوحشية التي استخدمت آنذاك، غير أن هناك فوارق كثيرة بين الثورتين تحول دون أن تؤدي تلك الأساليب النتيجة ذاتها.

بدأ العميد مالك حبيب الحديث بشكل صريح دون مواربة، فالمجتمعون كلهم من الطائفة النصيرية بل من أكابر مجرميها، وغير مجد أن يسمعهم المقطوعة المكررة الممجوجة عن الوطن والمؤامرات الكونية التي يتعرض لها، وعن وجوب التضحية في سبيله والوقوف في وجه الإرهابيين الذين يريدون له الخراب والدمار، فهذا الكلام إنما صاغه هؤلاء ليغطوا به جرائمهم ويستروا به وحشيتهم، وهم أعلم الناس بكذبه؛ لذلك كان الخطاب بينا لا يُجِّمل قبحه أي كذب:

– أيها السادة، نحن جميعا في خطر، هذا النظام ليس مقصورا على سيادة الرئيس فقط، بل كنا شركاء فيه، بل العلوية بأسرهم في خطر، لقد وقع الصدام مع السُّنيين منذ زمن ولقد أذقناهم خلال العقود الثلاثة الماضية ألوان العذاب، قتلنا منهم عشرات الألوف في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، وسقوط النظام يعني الهلاك لنا جميعا، فلا بد أن نتكاتف جميعا من أجل حماية النظام وسحق معارضيه، وفي المعارك الوجودية لا مكان للإنسانية والأخلاق وحقوق الإنسان، عندما يكون النظام مهددا تغدو هذه الكلمات ضربا من اللغو والعبث، نحن في خطر ويجب أن نتصدى له بكل قوة، يجب أن يدرك السُّنيون أن معارضتنا تعني تحويلهم إلى أشلاء، ويجب أن يدرك العلويون أن سقوط النظام يعني فناءهم، فلا يتخلوا عنا بحال، وهذا يستلزم منا العمل الجاد على تعزيز الطائفية وترسيخها لتكون درعا واقيا للنظام.

أيها السادة، غدا الجمعة، سيكون تعاملنا مع المظاهرات في الحولة مختلفا بعض الشيء، لن يقتصر الأمر على رمي القنابل الدخانية وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين وقصف القرى ببعض القذائف، بل سنقوم بمجزرة تنشر الرعب والإرهاب في جميع سوريا، ستكون مجزرة وحشية لا مثيل لها؛ ليعلم المعارضون أي مصير أسود ينتظرهم إن هم استمروا في المظاهرات المناوئة لنا؛ سنقتل الرجال والنساء والأطفال، ولن نبقي على أحد.

وهنا تدخل العقيد سليمان مستفسرا: هذا يعني أنه يتوجب علينا اختيار العناصر المنفذة بدقة، حتى لا يؤدي ذلك إلى حدوث انشقاقات في الجيش.

– نعم، كل هذا مدروس، الجيش مهمته نصب الحواجز وقطع الطرقات وتطويق المنطقة، أما المنفذون فسيكون معظمهم من العلويين المدنية لتقوى الروابط بينهم وبين النظام ويعلموا أن سقوط النظام يعني أنهم في خطر.

يتدخل عقيد آخر يدعى سامر فيسأل: وماذا عن بعثة المراقبين الدوليين؟ كيف سنخفي آثار المجزرة؟

– إذا أخفينا آثار المجزرة فلن نستفيد شيئا، يجب أن تظهر المجزرة وتنتشر لتزرع الرعب في قلوب الناس، وفي الوقت ذاته ننكر علاقتنا بها في الإعلام، وأما المراقبون فاعلم أنهم شركاء لنا لا خوف منهم، لقد انتقمنا من أعدائنا في حماة عام 1982 وقتلنا أهلها وشردناهم فماذا حصل؟ ببساطة لا شيء، بضع استنكارات وتنديدات في العلن ودعم لا محدود وتأييد مطلق في السر، العالم يا صاحبي يعيش على المصالح لا المبادئ، هل هناك أي سؤال أو استفسار؟

– إذا بإمكانكم الآن يا سادة أن تنصرفوا وتستعدوا لمعركة الغد فهي ليست سهلة أبدا، وعليكم أن تخبروا حواجزكم بوجوب تسهيل حركة الشباب القادمين من قرى فلة والغور ومريمين، فهم الذين سيقومون بالواجب في قرية تَلدو.

صباح الجمعة 25 / 5 / 2012 كان أهالي تلدو كالعادة يعدون العدة للتظاهر بعد أداء صلاة الجمعة، فهناك عدد من الخطاطين يكتب العبارات الثورية على اللافتات التي سترفع في المظاهرة، وهناك عدد من الإعلاميين يجهزون عدساتهم وأفلامهم لنقل المظاهرة بشكل مباشر على وسائل الإعلام، فيما انشغل قسم ثالث من الشباب بتجهيز المشفى الميداني لنقل الجرحى إليه لتتم معالجتهم بما تيسر.

أدى المصلون صلاة الجمعة ثم احتشدوا في مظاهرة يهتفون بسقوط النظام وينشدون الأناشيد الثورية، وكالمعتاد بدأت حواجز النظام بإطلاق الرصاص والقذائف لتفريق المتظاهرين الذين أخذوا يركضون في كل جانب ليحتموا من الطلقات الحاقدة والقذائف الآثمة، وقد رابهم هذه المرة كثافة القذائف حتى لم يعد في وسعهم العودة إلى بيوتهم، ثم تسامع الناس أن سيارات كثيرة العدد دخلت القرية تريد التفتيش، فاختبأ معظم الشباب خشية القتل والاعتقال، وبقي النساء والأطفال في البيوت، ولم يدر بخلد أحد منهم أن يجري ما جرى.

كان هناك عشرات المسلحين بالسكاكين والسواطير والبلطات في الحافلات، ويصحبهم عشرات من عناصر الأمن وقوات حفظ النظام، انطلقوا كالذئاب المسعورة إلى البيوت يركلون أبوابها بعنف وشدة؛ فإما أن يدرك أحد من سكان البيت فيفتح وإلا خلع الباب، ثم يتدفق عدد من المسلحين يفتشون المنزل ويحطمون أثاثه، ويعبثون بمحتوياته، ويسرقون ما خف حمله وغلا ثمنه ويقتلون أهله.

دخل أبو إسكندر العلوي أحد البيوت مع بعض الشبيحة من قرية فلة فوجد فيه رجلا وشابا يافعا، فأمر باعتقالهما، فأخذت المرأة تصيح: إلى أين تأخذون زوجي وابني؟

فأنزل أبو إسكندر لوحة الأمان وأفرغ رصاصة في جسد المرأة فهمدت، وأخذ الأولاد بالصراخ والبكاء، فانهال الشبيحة على رؤوسهم بالسواطير ففلقوها، وركض طفل صغير لا يتجاوز عمره التاسعة هاربا، فأمسك أبو إسكندر بساعده وهو يضحك ملء شدقيه وقال له: إلى أين ستهرب؟ فنظر الطفل بعينيه البريئتين إلى أبي إسكندر، وقال له: عمو حباب لا تقتلني، وأجاب أبو إسكندر الطفل برصاصة في رأسه نثرت دماغه.

وفي حي آخر كان العقيد خضور على رأس مجموعة من عناصر حفظ النظام، وقد أعطى أمرا لعناصره بتفتيش أحد البيوت وإخراج من فيه من الرجال، وسرعان ما خرج أحد العناصر ليقول له: سيدي لا يوجد هنا إلا النساء والأطفال.

– اقتل الصغير قبل الكبير، لا تغادر منهم أحدا.

– وعاد العنصر مجددا لينفذ ما أمره به العقيد، وأحست الأم بالشر في عينيه، فقالت له متوسلة وهي ترفع رضيعها بين يديها: معلش اقتلنا نحن بس شو ذنب هالأطفال، فأجابها: كلكم إرهابيون، ثم أعمل ورفاقه نصال الغدر في أجساد الأم وأطفالها، وكان نصيب الرضيع معهم سكين في صدره الغض الطري.

وفي بقعة ثالثة من القرية دخل الشبيحة أحد المنازل فإذا كل من فيه نساء وأطفال، فسأل: أين هرب الرجال؟ فأجابته إحدى النساء، لا رجال هنا، كلهم مسافرون يعملون في لبنان.

– في لبنان، أم أنهم إرهابيون فروا؟

– والله يا أخي في لبنان، كرمال الله لا تؤذونا.

وأخذ الشبيح يسب الله بأقذع لفظ وأشنعه، ثم جمع السكان في غرفة واحدة وسلط نيران البنادق عليهم.

وبعد أن أنهى الشبيحة مهمتهم عادوا أدراجهم إلى قراهم، وانتشرت أخبار المجزرة وسارع الشباب إلى القرية وقد أذهلتهم المفاجأة.

دخل عماد عبد الرزاق بيتا من بيوت أسرته ليجد كل من فيه صرعى، وفيهم ابن أخته وعمره تسعة أشهر وقد شقت بطنه بطلقتين، فدلف إلى بيت آخر فوجد طفلة قريبة له جريحة، فصاح يطلب النجدة، فدخل بعض الشباب ليسعفها فأخذت تصرخ: يا عمي لا تخليهم يقتلوني، فبكى الشاب وقال: سلامتك يا حبيبتي، ذهب المجرمون نحن سنسعفك.

وفي النهاية أحصى عماد عبد الرزاق من قتل من أسرته فكانوا ستة وثمانين شخصا، بينهم سبعة وخمسون طفلا، وظلت الطفلة مع مرور سنوات على المجزرة يأتيها الكابوس فتصرخ في نومها: يا عمي لا تخليهم يقتلوني.

أما علي السيد والذي كان طفلا عندما قتلت أمه وأخته بقربه، فقد تحامل على نفسه وقال: عزاؤنا فيهم أنهم شهداء ولن نحزن على الشهداء، وإن وجدنا في نفوسنا غصة لفراقهم.

عاد المجرمون إلى قراهم وأمضوا ليلتهم يقصون على بعضهم أخبار إنجازاتهم في القتل والذبح والاغتصاب وانتهاك الأعراض والسرقة، ويميل بعضهم على بعض وهم يضحكون ويتفاخرون بغلظ قلوبهم وفظاظة أخلاقهم، ولم يخطر في بال واحد منهم أن جريمتهم أشعلت نيران الانتقام في قلوب رجال أهل السنة في كثير من المدن، وأن القصاص من هؤلاء الشبيحة وإخوانهم حتم لازم، وأن المعارك القادمة ستلتهم كثيرا من شبيحتهم وتحرقهم في أتونها، ومن نجا من لهيب المعارك فأمامه لهيب جهنم وسعيرها.

 

انتهت.

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٣٣ رجب ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى