شهر القرّاء | الركن الدعوي | مجلة بلاغ العدد ٥٨ – شعبان ١٤٤٥ هـ |

جمع وترتيب الشيخ: رامز أبو المجد الشامي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد؛

قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36].

وإنّ شهر شعبان من الشهور الكريمة والمواسم العظيمة، وهو شهرٌ اشتهرت بركاته، وعمّت خيراته، والإقبال على اللّه فيه من أعظم الأعمال الصالحة، والمتاجرة مع اللّه فيه صفقات رابحة لا يجد لها الخسران سبيلاً ولا مسلكاً إليها يسلكه، ومن اجتهد فيه بالعبادات فاز فيه وفي رمضان بالقربات.

وجاء في سبب تسميته شعبان أقوال كثيرة، منها: يتشعب منه خير كثير، ومنها كان الناس يتشعبون فيه بحثاً عن الماء، ومنها: مشتق من الشِّعب وهو الطريق في الجبل، ومنها: من الشَّعب وهو الجبر أي تجبر نفوس المؤمنين، وقيل غير ذلك.

شهر القرّاء، لَقَدْ كَانَ سَلَفُ الأُمَّةِ يَقُولُونَ عَنْ شَهْرِ شَعْبَانَ هُوَ شَهْرُ القُرَّاءِ، كَمَا جَاءَ في بَعْضِ الآثَارِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: “كَانَ المُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ انْكَبُّوا عَلَى المَصَاحِفِ فَقَرَءوهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ تَقْوِيَةً للضَّعِيفِ وَالمِسْكِينِ عَلَى صِيَامِ رَمَضَانَ”.

وَيَقُولُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: كَانَ يُقَالُ: “شَهْرُ شَعْبَانُ شَهْرُ القُرَّاءِ”.

 

وَيَقُولُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ: “هَذَا شَهْرُ القُرَّاءِ”.

 

وَكَانَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المَلَائِيِّ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَغْلَقَ حَانُوتَهُ وَتَفَرَّغَ لِقِرَاءَةِ القُرْآنِ.

*تحويل القِبلة:

كان في شهر شعبان تحويل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم ينتظر ذلك ويرغب به ويحبّه، ويقوم في كلّ يوم مقلباً نظره في السماء ينتظر جبريل عليه السلام حتى أعطاه اللّه ما أراد، قال تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}، قالت أمنّا عائشة رضي اللّه عنها: «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» رواه البخاري.

وبعد أن صلى المسلمون سبعة عشر شهراً وثلاثة أيام إلى بيت المقدس جاءت الأوامر الإلهية باستقبال الكعبة وكان ذلك في منتصف شعبان.

*رفع الأعمال:

من صفات شهر شعبان رفعُ الأعمال إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو الرفع الأعظم والأوسع والأكبر، وقد ورد في ذلك الآثار عن أسامة بن زيد رضي اللّه عنه قال: “قلت يا رسول اللّه لم أرك تصوم شهر من الشهور ما تصوم في شعبان، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم»” أخرجه النسائي.

*الصيام في شعبان:

عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “لَمْ يَكُنِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُ شَهْرًا أكْثَرَ مِن شَعْبَانَ، فإنَّه كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ” رواه البخاري، وفي رواية مسلم: “كان يصومه إلا قليلاً”.

 

وفي رواية للبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلَّا رَمَضَانَ، وما رَأَيْتُهُ أكْثَرَ صِيَامًا منه في شَعْبَانَ”.

*لا يجوز تقديم رمضان بصيام يوم أو يومين:

من المعلوم عند العلماء أنه لا يجوز للمسلم الذي لا عادة له في صيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس فلا يجوز له أن يتقدم رمضانَ بصيام يوم أو يومين على جهة الاحتياط لشهر رمضان، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقَدَّمُوا شهْرَ رمضانَ بصوْمٍ قبْلَهُ بيومٍ أوْ يومَيْنِ، إلَّا أنْ يكونَ رجلٌ كان يصومُ صومًا فلْيَصُمْهُ» منفق عليه.

وقال عمَّار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه: “مَنْ صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم” رواه أبو داود، والترمذي بسند صحيح، وأخرجه البخاري مُعَلَّقًا، مجزوما به.

*معنى غفلة الناس عنه:

ذكر ابن رجب -رحمه الله- في معناه: “أنه شهر يَغْفُل الناسُ عنه بين رجب ورمضان، يُشير إلى أنه لَمَّا اكتنَفَه شهرانِ عظيمانِ؛ الشهرُ الحرامُ وشهرُ الصيامِ اشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه إلى أن قال: “فيشتغل الناس بالمشغول عنه ويفَوِّتُون تحصيلَ فضيلة ما ليس بمشهور عندهم؛ أي شعبان”.

*قضاء ما على الإنسان من صيام:

ومن كان عليه قضاء شيء من صيام رمضان فيستحب له قضاءها في شعبان، إن لم يكن قضى ما عليه قبل شعبان، عن عائشة رضي اللّه عنها وأرضاها قالت: “كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلَّا في شَعْبَانَ؛ [وفي رواية]: وَذلكَ لِمَكَانِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مني” صحيح مسلم.

*ليلة النصف من شعبان:

وَإِنَّهُ ممَّا شاعَ بَيْنَ كَثيِرٍ مِنَ النَّاسِ ما يَتَعَلَّقُ بِفَضْلِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ، وَقَدْ جاءَ فيها جُمْلَةٌ مِنَ الأَحادِيثِ لا يَصِحُّ مِنْها شَيْءٌ، وَلِهذا ذَهَبَ جَماهيِرُ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَىَ أَنَّهُ لَيْسَ لهذهِ الَّليْلَةِ فَضْلٌ، ذَهَبَ إِلَىَ ذَلكَ جماعاتٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ قَدِيمًا وَحَديثًا، فَلَيْلَةُ النَّصْفِ مِنْ شَعْبانَ كَسائِرِ لَيالِيِ الزَّمانِ لَيْسِ لهَا فَضْلٌ يخَصُّها وَلا لهَا مَيْزَةٌ تُمَيِّزُها عَنْ غَيْرِها، بِلْ ما قِيلَ فيها مِنَ الفَضائِلِ هُوَ في الأُسْبوُعِ مَرَّتَيْنِ فما قِيِلَ مِنْ عَرْضِ العَمَلِ لَيْلَةِ النَّصْفِ مِنْ شِعْبانَ عَلَىَ رَبِّ العِبادِ وَالمغْفِرَةِ لكُلِّ مُسْلِمٍ وَمؤْمِنٍ غَيْرَ مُشْرِكٍ وَلا مُشاحِنٍ قَدْ جاءَ بِهِ الحديِثُ الصَّحيِحُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقالَ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِى كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا» أي أخروا، «ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»، فَهَذِهِ الفَضيِلَةُ الَّتيِ يُقالُ إِنَّها في لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ تَتَكَرَّرُ عَلَيْنا فِيِ الأُسْبوُعِ مَرَّتَيْنِ، فَالأَعْمالُ تُعْرَضُ في كُلِّ جُمْعَةٍ عَلَىَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَميِسٍ، فَمَنْ أَرادَ الفَضْلَ المذْكوُرَ في الحَديِثِ مِنْ حُصوُلِ المغْفِرَةِ فَلَيُحَقِّقِ التَّوْحيِدَ للهِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَلْيُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ الغِلِّ وَالشَّحْناءِ؛ فَإِنَّ الشَّحْناءَ وَالغِلَّ توُجِبُ حَجْبَ المغْفِرَةِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

*استعداد لموسم الخير رمضان:

والأعمال الصالحة ترفع إلى اللّه تعالى في كل وقت وزمن وينبغي المداومة عليها والإكثار منها في شعبان من باب التهيئة والاستعداد لرمضان، حتى تكون النفوس قد ألفت العبادات واستعدت لها فيهون عليها القيام بالعبادات في رمضان.

اللهم بلغنا رمضان وأعنا فيه على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى اللّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد للّه ربّ العالمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى