دعوة العجوز || الواحة الأدبية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون

الأستاذ: غياث الحلبي

أشارت الساعة إلى السابعة والنصف صباحا، وأخذ المنبه يرن بشدة مزعجة وكأنه مطرقة تطرق الرؤوس وتصك الآذان، آه كم أكره صوت المنبه، ربما أكرهه أكثر من صوت القذائف التي تتساقط يوميا على مدينتنا الحبيبة حلب.

أسكتُّ المنبه بتسخط، ثم نهضت استعدادا للسفر مع الشيخ أبي عبادة إلى سراقب، فهناك عدد من الأمور الإدارية يجب أن ننتهي منها قبل حلول رأس الشهر.

بالنسبة لي فأنا أعرف الشيخ أبا عبادة منذ عامين، أعرف فيه الخلق الحسن والبذل والتضحية والصبر ومحبة الخير للمسلمين وعلو الهمة في العلم والعمل، ولكن هذه هي المرة الأولى التي سأسافر فيها معه، بل هي المرة الأولى التي أركب معه في سيارة واحدة.

غسلت النوم عن عيني بوضوء بارد منعش في أيام الصيف هذه، ثم صليت ركعتي الضحى، وما إن فرغت حتى كانت زوجتي قد فرغت أيضا من إعداد الفطور، تناولت لقيمات قليلة ثم جلست أرتشف رشفات من فنجان القهوة شرابي المفضل، وما إن جاوزت عقارب الساعة الثامنة بقليل حتى تلقيت تنبيها على القبضة، فقد وصل الشيخ أبو عبادة، لبست حذائي ثم مضيت مسرعا حيث شاهدت الشيخ أبا عبادة في سيارته ينتظرني، ألقيت عليه السلام ثم صعدت وجلست بجانبه، تبادلنا التحية والسؤال عن الأحوال والأهل والصحة، ثم ساد الصمت في السيارة، الصمت الذي لا يشقه إلا هدير المحرك أو تنبيهات الزمور التي يطلقها الشيخ أبو عبادة أثناء قيادته السيارة حين يستدعي الأمر ذلك.

لم نجاوز دوار الشعار إلا بمسافة حتى أشار شابان للشيخ أبي عبادة فتوقف، وأقبل الشابان فألقيا السلام، ثم قالا: نحن ذاهبون إلى منطقة الشقيف، فقال لهما الشيخ: تفضلا، صعد الشابان في المقعد الخلفي للسيارة ومضت السيارة في طريقها حتى وصلت الشقيف حيث نزل الشابان بعد أن أهداهما الشيخ أبو عبادة كتيب حصن المسلم لكل واحد منهما، ومن عادة الشيخ دائما أن يحمل عددا من هذا الكتيب النافع ويهدي منه كل من صادفه في الطريق من شباب الحواجز أو من يصعد مع الشيخ في السيارة.

وبعد أن قطعنا منطقة كفر حمرة أشار إلينا رجل مع أسرته فتوقف الشيخ وحمله، ثم نزل الرجل وأسرته بعد قريتين.

ولما دخلنا منطقة أورم أشارت امرأتان مع شاب صغير فحملهم الشيخ في طريقه، وكان جميع من صعد معنا يدعو لنا قبيل نزوله بالحفظ والنصر.

وبالمختصر لم نصل سراقب حتى بلغ عدد من أشار إلينا وصعد معنا تسعة أشخاص.

أمضينا في سراقب بضع ساعات أنهينا فيها ما يجب علينا إنهاؤه، ثم صلينا الظهر وتناولنا كوبا من العصير البارد وتوجهنا إلى السيارة لتبدأ رحلة العودة إلى حلب.

لم نسر بالسيارة إلا مسافة يسيرة حتى أشار إلينا رجل ومعه كيس كبير، وكان من الواضح أن الشمس لفحت الرجل بحرها فأخذ العرق يتصبب منه بغزارة، ولما رآه الشيخ أبو عبادة قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، كان الله بعون هؤلاء المساكين، ثم وقف حتى صعد الرجل وأصعد كيسه، وانطلقت السيارة في طريقها.

ولما نزل الرجل بعد وصوله إلى قريته قلت للشيخ أبي عبادة: يا شيخنا الكريم إن مساعدة الناس ورحمتهم والإشفاق عليهم أمر في غاية الحسن، ولكن أنت ترى الأوضاع الأمنية المتردية التي نعيشها وجرائم الاغتيالات والخطف التي تقوم بها خلايا الخوارج المفسدين، فلو أخذت حذرك وكففت عن حمل كلِّ من أشار إليك وأنت في سيارتك.

فقال لي: عجبا لك، أتنهاني عن معروف أقوم به، لقد خاب ظني فيك.

فأجبت: معاذ الله أن أنهاك عن معروف، إنما أنهاك عن الاستهتار بنفسك، فإنك لا تدري لعل داعشيا يشير إليك ثم يقوم بقتلك أو خطفك، خاصة وأنت كثيرا ما تسافر وحيدا.

فقال لي: لقد حدث ذلك فعلا.

فدهشت وقلت: حدث ماذا؟

قال: حدث أن خطفني داعشيان.

فقلت: كيف ذلك وكيف نجوت منهما.

فقال: نجوت بدعوة العجوز.

فقلت: أي عجوز؟ حدثني بالقصة من أولها.

فقال: هي ليست قصة بل اثنتان؛ قصة العجوز وقصة الدواعش.

فقلت: دع عنك التدقيق وحدثني.

فقال: حسنا، وسأبدأ بقصة العجوز؛ فذات يوم وبينما أقود سيارتي في برد قارص أشارت إلي عجوز طاعنة في السن قد حفر الدهر أخاديد في وجهها وقوست السنون ظهرها، فوقفت لها حتى صعدت، ثم أخذت تشكو إلي أنها منذ أكثر من نصف ساعة وهي واقفة تنتظر أن يقلها أحد في سيارته، وقد أشارت إلى عدد من السيارات فلم يعرها سائقوها انتباها، ثم أخذت تدعو لي بأدعية كثيرة، وأنا أؤمن على دعائها وأقول: ولك بمثل إن شاء الله يا خالة، حتى وصلت حيث تريد فنزلت وقالت لي: “أسأل الله أن يحفظك من الحكام والظلام وأولاد الحرام”، ومضت في طريقها ومضيت في طريقي.

ومرت الأيام وبينما أنا أقود سيارتي في إحدى القرى القريبة من مطار أبي الظهور أشار إلي شابان لم يعجبني منظرهما ولكني وقفت لهما وقلت في نفسي: لعلي أنصحهما ويجعل الله هدايتهما على يدي، ولما صعد الشابان ابتدأت أسألهما عن أخبارهما وأعمالهما، فأخبراني أنهما يعملان في البناء، فقلت: أنتما شابان ممتلآن حيوية وقوة، ولا بد أن تجاهدا في سبيل الله، ألا تريان ما يفعل النظام المجرم من تقتيل وتشريد.

فقالا لي: وهل أنت مجاهد؟

فقلت: طبعا إذ كيف آمركم بأمر وأغفل عنه، قال: ولم أدر أني أوقعت نفسي بجوابي هذا.

فما إن سمعا ذلك مني حتى وضع أحدهما مسدسه في رأسي وقال لي: اتجه يمينا يا مرتد.

فعلمت حينها أنهما من خلايا الخوارج ولم يكن بمقدوري إلا أن أسير حسب إرشادهما، وأخذت أفكر كيف يمكن أن أتخلص من هذه الورطة التي وقعت فيها، واتجهت بقلبي إلى الله أستغيثه وأسأله الفرج وأدعوه دعاء المضطر، وتذكرت قصة قرأتها في صغري تحرك جانب المروءة في الإنسان، وهي أن راكبا كان يسير في الصحراء فوجد رجلا ملقى على الأرض يشير إليه، فلما نزل ليعين الرجل الملقى نهض ذاك الرجل وأشهر سيفه وأراد أن يقتل الراكب ويسلبه متاعه، فقال له الراكب: يا هذا إذا قتلتني وأخذت سلبي فلا تحدث أحدا بقصتي حتى لا تضيع المروءة في الناس ويزهدوا في إغاثة الملهوف وإعانة المحتاج، فاستحيا قاطع الطريق وتاب إلى الله تبارك وتعالى وترك ما كان فيه من الإجرام.

فقلت لهما: يا هذان اسمحا لي بكلمة فقط.

فقالا: ما تريد؟

فقلت: إذا قتلتماني فلا تحدثا الناس بالطريقة التي خطفتموني فيها حتى لا تضيع المروءة بين الناس.

فقالا لي: اهتم لنار جهنم التي سنزفك إليها بعد قليل ودعك من أمر الناس.

وأصبت بخيبة أمل شديدة لدى سماعي جوابهما، وحاولت أن أناقشهما لماذا أنا مرتد؟

فقالا لي: ستعلم ذلك بعد أن تدخل جهنم.

ثم وصلنا إلى بيت في طرف قرية نائية فأنزلاني وقيداني في إحدى الغرف.

وقال أحدهما للآخر: هل نذبحه الآن أم نتركه إلى الغد؟

فقال الثاني: دعنا الآن نغير ملابسنا ونأكل لقمتين أولا ثم نذبحه.

وأخذت أتضرع إلى الله وأتوسل إليه بكل عمل صالح لي عملته، وأقول: يا رب لا تجعل فعلي الخير سببا لقتلي، يا رب أنت تعلم أني أردت بحملهما مرضاتك، يا رب إنك لا تصلح عمل المفسدين وإن هؤلاء من المفسدين، يا رب انتقم منهما جزاء غدرهم.

وبينما أنا مستغرق في دعائي إذ قال أحدهما للآخر: تعال ساعدني في نزع حزامي الناسف، فلما جاء الآخر وأخذ يعالج الحزام الناسف لينزعه سحب الصاعق بالخطأ فانفجر الحزام وقتل الخارجيان، وسمع أهل القرية الانفجار فأقبلوا إلى البيت الذي أنا فيه وأخذوا يصيحون: ما الذي جرى، فقلت: أنا هنا ساعدوني، النجدة، فكسروا قفل البيت، وأنقذوني بفضل الله تعالى.

خرجت من المنطقة، وقلت في نفسي: لن أقف بعد اليوم لأحد يشير لي كائنا من كان، ولو رأيته يتشحط بدمائه.

ولما وصلت بيتي وأخلدت إلى النوم أتاني آت في منامي، فقال: بئس ما نويت من الكف عن حمل الناس، أتعلم بم أنجاك الله؟

فقلت: بمَ.

فقال: بدعاء العجوز حين قالت: “أسأل الله أن يحفظك من الحكام والظلام وأولاد الحرام” وإن هذين من الظلام، فكن في عون إخوانك يكن الله في عونك.

ثم استيقظت وآليت على نفسي ألا يشير إلي أحد إلا وقفت له وحملته ما دام ذلك ممكنا.

انتهت.

 دعوة العجوز || الواحة الأدبية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون الأستاذ: غياث الحلبي
دعوة العجوز || الواحة الأدبية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون الأستاذ: غياث الحلبي
 دعوة العجوز || الواحة الأدبية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون الأستاذ: غياث الحلبي
دعوة العجوز || الواحة الأدبية ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون الأستاذ: غياث الحلبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى