بلسم الغرباء في آية سورة الأعراف – – مجلة بلاغ العدد ٤٥ – رجب ١٤٤٤هـ⁩

الأستاذة: خنساء عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

إليكِ أختي المؤمنة -إن كنتِ ممن وطنتْ نفسها أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أو كانت من أسرة عمادها أو أحد أفرادها كذلك- أبشرك بأنكم طبتم وطاب ممشاكم، ولا أنسى أن أذكركِ بقوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء».

يا لجمال وجلال هذه البشرى تتنزل غيثا يسقي قلب المؤمن لينبت إصرارا فيمضي ليؤدي أمانة إيصال الحق لمن بعده، ثم يمضي إلى ربه راضيا مرضيا لا يضره من خالفه وإن نفش واستعظم، تحدوه آيات القرآن يتلوها مستنيرا بهديها الوضاء، فهذه آية الأعراف (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة اﻷعراف: الآية 2].

تصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام كما قال صاحب الظلال رحمه الله، ويعلم أنه يستهدف أمرا هائلا ثقيلا دونه صعاب جسام من رواسب وتصورات وقيم وضغوط في الأوضاع والأعصاب، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها، غريبة على البيئة ثقيلة على النفوس يستنكرها أكثر من حوله، ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل…

الحرج الذي يدعو الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يكون في صدره شيء منه، وأن يمضي به وينذر ويذكر ولا يحفل بما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء، ثم تثبته الآيات التي جاءت بعدها: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [سورة اﻷعراف: الآية 4] فيتأكد أن قراره الذي اتخذه هو القرار الواقعي وليس وهما في عالم المثاليات كما يتهمه المتثاقلون إلى الأرض الغارقون في وحل العصيان لرب العالمين.

قدوته الصحابة الكرام الذين قالوا للجاهلية (لا) ثم مضوا ينهلون من النور الإلهي في كتابه العزيز.

والصحابي ذو البجادين كان صورة جلية وقدوة في هذا الطريق، إنه (عبد الله المزني) اليتيم الفقير الذي احتواه عمه الغني وأنزله من نفسه وماله منزلة الولد، لكنه عندما أسلم استشاط عمه غضبا، وقال: أقسم باللات والعزى لئن أسلمت لأنزعن من يدك كل شيء كنت أعطيته لك، ولأسلمنك للفاقة..، ثم استعان عليه بأعمامه فطفقوا يهددونه ويتوعدونه، فكان يقول لهم: افعلوا ما شئتم فأنا والله متبع محمدا، وتارك عبادة الأصنام، فما كان من عمه إلا أن جرده من كل ما أعطاه ولم يترك له غير كساء غليظ يسمى بالبجاد يستر به جسده. لكن ذلك لم يثنه عن عزمه وهاجر إلى الله ورسوله.

هؤلاء قدواتنا يا أختاه في الاستمساك بحبل الله، في عصر قل فيه المستمسكون.

نعم لا خيار للمؤمن سوى هذا الطريق.

وإلا فالآيات التي بعدها تحدد مصير من غرته الحياة الدنيا وحول مساره من أجلها، فالهلاك نهاية من اتبع خطوات الشيطان بحجة الحكمة والسياسة غير الشرعية، والنجاة للصادعين بالحق (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة اﻷعراف: الآية 165].

إذ هل يستوي من وضع رأسه بين الرؤوس وقال: يا قطاع الرؤوس! وبين من رفض المغريات وأبى إلا أن يكشف ويبين الحقائق للناس غير مبال بما يصيبه من البلاء؟

ألم تقم قريش بمبادرة قام بها عتبة بن ربيعة تعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم الزعامة والمال؟

فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِن تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وبينكم».

كان من المتصور في باب الحكمة والسياسة غير الشرعية أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بالزعامة ويجنب المؤمنين الكثير من التعذيب والويلات، على أن يجمع في نفسه اتخاذ الزعامة وسيلة إلى تحقيق الدعوة فيما بعد، خصوصا وأن للسلطان والملك وازعا قويا في النفوس، وحسبك أن أرباب المذاهب والدعوات الباطلة ينتهزون فرصة الاستيلاء على الحكم كي يستعينوا بسلطانه على فرض دعوتهم ومذاهبهم على الناس.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلك هذه السياسة والوسيلة إلى دعوته؛ لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها فالشريعة الإسلامية تعبدتنا بالوسائل كما تعبدتنا بالغايات.

فليس لنا أن نسلك إلى الغاية التي شرعها الله إلا الطريق المعينة التي جعلها الله وسيلة إليها.

وهذا الفرق بين السياسة الشرعية وغير الشرعية كي يظهر الفرق بين الصادق الصريح في صدقه والكاذب الذي يخادع في كذبه، وكي لا يتلاقى الصادقون في دعوتهم مع الدجالين على طريق واحدة عريضة بزعم الحكمة والسياسة.

ومن هنا يحتاج أرباب الدعوة الإسلامية في معظم حالاتهم وظروفهم إلى التضحية والجهاد؛ لأن السبيل التي يسلكونها لا تسمح لهم بالتعرج كثيرا ذات اليمين وذات الشمال.

ونحن هنا من أكثر من اكتوى بنار هذا الالتواء، والله المستعان..

لذلك عليك يا أختاه: أما كنت أو أختا أو زوجة لمن سلك طريق أعظم الجهاد، أن تصبري وتحتسبي الأجر ممن عنده الجنة التي عرضها السموات والأرض، وثقي أن المصاعب كلها تنسى عند أول خطوة في الجنة.

ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

لقراءة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا 

لتحميل نسخة من المجلة اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى