الجزاء من جنس العمل || الواحة الأدبية || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: غياث الحلبي

كان يمشي متسكعا في الطرقات والأزقة ينتقل من حارة إلى أخرى لا على هدى، يلتمس من الناس صدقاتهم وهباتهم، فإذا سُفكت دماء الشمس وتناثرت على الأفق الغربي واتشح الكون بالسواد حدادا على ذلك أوى المشرد إلى حديقة فرمى بثقل جسده عليها وغط في نوم عميق ثم لا يصحو إلا بعد أن تكسعه حرارة الشمس بسياطها.

 

هذا حاله في الصيف، أما في الشتاء فكان يبحث عن أي شيء يحول بينه وبين صيِّب السماء ليستلقي تحته ملتفا بأطماره البالية متدثرا ثيابا كأنما ورثها عن شداد بن عاد، أو كأنها عري متنكر لهيئة ثياب، وإن شئت فقل: تشبه ثياب فتاة تزعم التحضر والتطور فتبدي الثياب أكثر مما تخفي، غير أن المتشرد كانت الأوساخ المتراكمة على جلده كفيلة بستر ما أبدته ثيابه المهلهلة.

تعاقب الليل والنهار والمتشرد على بؤسه وفقره وسوء حاله، وقد اعتاد هذه الحياة ولم يكن يفكر بسواها، وكأنها قدر لازب له لا يستطيع عنها فكاكا.

وذات يوم غيَّر المتشرد خط سيره المعهود فخرج إلى حي آخر لم يكن له به عهد من قبل، وبينما هو يسير فيه إذ غزت أنفه جيوش من روائح الأطعمة الشهية التي تهفو إليها نفس من امتلأ شبعا، فلم يشعر إلا وقدماه تطاردان تلك الروائح وتتبعها حتى وصل إلى عقر دارها، إنه مطعم فخم ضخم فيه ما يسر العين ويخلب اللب.

وقف المتشرد أمام المطعم متأملا ما فيه غير جاسر على دخوله، وهو يرى أناسا يرتدون أفخم الثياب ويركبون أفخم العربات يدخلون إليه.

ولأول مرة شعر بمرارة حياته وما هو فيه من البلاء، وأحس بحقد كبير على هؤلاء المنعمين الذين يدخلون فيأكلون ما يشتهون ثم يخرجون وقد أتخمت بطونهم ثم لا يبالون به.

كان مالك المطعم رجلا ثريا جدا، أكسبه حسن تعامله وصدقه وبشاشة وجهه الزبائن الكثر، غير أنه لم يكن سعيدا في حياته؛ لأنه كان عقيما لم يرزق بولد.

وقعت عينا صاحب المطعم على المتشرد فهاله منظره وأحس نحوه بعاطفة شديدة، فأمر أحد العمال في المطعم أن يأخذه إلى الحمام فيغسله وينظفه ويلبسه ثيابا جديدة ثم يأتيه به.

 

انطلق العامل نحو الفتى المشرد، وما إن اقترب منه حتى أزكمت أنفه رائحة نتنة كأنها رائحة إيزابيلا الأولى التي أقسمت ألا تغتسل حتى تسقط غرناطة.

تحامل العامل على نفسه وأشار إلى الفتى ليتبعه، ومضى به حتى أتى الحمام فدفعه إلى قيمه لينظفه، ثم مضى فاشترى له ثيابا جديدة، وعاد فكساه إياها وعاد به إلى صاحب المطعم.

كان العامل يسير في الأمام والفتى خلفه وبينهما مسافة لا بأس بها، فلما دخل العامل إلى المطعم تعلقت به عينا صاحب المطعم بحثا عن المشرد، إلا أنه لم يره ورأى فتى وسيما دخل خلفه فظن أنه ابن أحد الزبائن قد سبق أباه إلى المطعم. فسأل العامل: أين الفتى؟

– هو ذا خلفي.

– لا أرى أحدا.

– هذا الفتى، وأشار إليه، ودهش صاحب المطعم لشدة تغير منظر الفتى بعد تنظيفه وتغيير ثيابه.

أشار مالك المطعم إلى الفتى فجاء إليه، فأخذ يربت على كتفه ورأسه، ثم سأله: ما اسمك يا بني؟

كان ذلك سؤالا غريبا بالنسبة له، فهو لا يتذكر إن كان أحد قد سأله إياه من قبل، تلعثم الغلام قليلا، ثم قال: اسمي غريب.

– غريب اسم غريب فعلا.

– ربما لكني أشعر أني غريب عن هذا العالم حقا.

– قد يكون ذلك سابقا أما من الآن فصاعدا فلن تكون غريبا، ما رأيك أن تعمل عندي هنا في المطعم لتكسب لقمة عيشك بشرف من كد يمينك؟

– أنا؟ أعمل ماذا؟ أنا لا أعرف الطهي.

– هه هه بالطبع لن تكون طاهيا، سيكون عملا مناسبا لك، وهذا نزار، وأشار إلى العامل، سيساعدك، ستنظف الأواني والأكواب والملاعق وتمسح الطاولات وتضع الطعام على موائد الزبائن.

– موافق.

– أخبرني أين بيتك يا بني؟

– ليس لدي بيت.

– فإلى أين تأوي وأين تنام؟

– حيث يتيسر لي ذلك في الحديقة أو على الرصيف أو مداخل البنايات.

– حقا؟

– نعم، وما الغريب في ذلك؟

– من الآن فصاعدا ستنام في المطعم، هناك غرفة مجاورة للمطبخ فارغة سيحضر لك نزار فراشا لتنام عليه.

– لا حاجة لذلك فقد ألفت النوم على الأرض.

– من الآن ستبدأ حياة جديدة ألم نتفق على ذلك؟

– أشكرك سيدي أشكرك.

– انطلق مع نزار لتبدأ العمل، وعليك أن تثبت جدارتك.

– أرجو ألا أخيب ظنك.

شعر مالك المطعم بسعادة كبيرة وإحساس رضى عجيب لم يسبق أن ذاق مثله قبل. وعندما عاد إلى منزله ليلا ظل مدة يتقلب على فراشه ساهرا مستعيدا أحداث يومه فرحا بإنقاذه غريبا من مخالب التشرد وأوضار البؤس وشدائد الفقر ومساوئ الضياع وشرور التيه، وعادت صورة الأطفال إلى ذهنه، وتمنى بأن يرزق طفلا يملأ زوايا بيته بالحب والحركة، ولكن أنى له ذلك وهو لم يترك طبيبا إلا واستشاره، فكان جوابهم واحدا: لن يكون ذلك إلا أن يشاء الله. لقد حشر في معدته صيدلية كاملة من الأدوية ولم يستفد شيئا.

ولما يئس من الأطباء ذهب إلى زاعمي طب الأعشاب وما من عشبة يعسر اسمها على النطق وطعمها على الذوق إلا نال نصيبه منها، ولم تكن النتيجة مع هؤلاء بأفضل من النتيجة مع أولئك، بل إنه من حماقته عندما يئس من شِقَّي الطب لجأ إلى بعض الدجالين الذين يتسترون بالدين فسقوه مياها غريبة الطعم وعلقوا له تمائم وحجبا وأوصوه بعدم فتحها، وقرؤوا في زوايا بيته طلاسم وهذيانا كثيرا، ولم يعد منهم إلا بخفي حنين.

وأخيرا قطع عليه تفكيره صوت زوجته، وهي تقول: إياد ألم تنم بعد؟ ما الذي يشغل بالك؟

– لا شيء، لا شيء، سأنام الآن.

– أشعر أن هناك ما يشغلك، بم تفكر؟

– قلت لك: لا شيء.

– بلى، لا بد أنك تفكر بالزواج علي، وأجهشت بالبكاء، وسرعان ما ملأت دموعها الوسادة وأخذت تندب حظها، وتقول: أنتم الرجال هكذا، لا أمان لكم، وأنا التي صبرت معك ورضيت أن أحرم الذرية من أجلك، ثم تريد أن تتزوج علي؟ أين الوفاء؟ وأين حسن مكافأتي؟ وتحول البكاء إلى نحيب ثم إلى عويل وأوشكت على بدء حفل نياحة.

 

واحتار إياد في أمره، أيغضب فيصرخ أم يضحك من هذه المهزلة، كيف اخترعت المرأة موقفا حزينا من بنات أفكارها ثم تفاعلت معه بل حولته إلى حقيقة في وهمها ثم أخذت تبني عليه أحكاما وتتخذ بناء عليه مواقف.

– اهدئي، اهدئي، يا امرأة فلست مجنونا لأجلب مصيبة جديدة.

– تقصد أني مصيبة قديمة.

– آه، لا أقصد ذلك بالتأكيد، ولكن العاقل لا يخطئ الخطأ ذاته مرتين.

– يعني زواجك مني كان خطأ، أصلح خطأك إذن وطلقني الآن واذهب لتتزوج سعيدة الحظ.

– من سعيدة الحظ؟

– تلك التي تفكر بها وحرمتك النوم، يا لك من عاشق ولهان، بعد الكبرة جة حمرا.

– كفي عن جنونك يا امرأة.

– وتتهمني بالجنون أيضا؟

– أوه، من أين حلت علي هذه المصيبة؟

– الآن صرت مصيبة بعد أن أكلت شبابي، رحم الله أيام الخطوبة عندما كنت تستجدي نظرة مني.

– كيف يمكن أن أفهمك؟

– أتراني غبية تحتاج جهدا لتفهم؟

– أعطني جوالي.

– لماذا؟

– لأكلم نزارا.

– أتريد أن تطلب منه أن يوصلني إلى أهلي؟ لا داعي لذلك سأتصل بأخي ليأخذني بما أنك لم تعد تحتمل وجودي إلى الصباح.

– ما أشد حمقي عندما طلبت منك الجوال، ثم قام فأخذه واتصل بنزار ليحضر بسرعة.

– وما هي إلا دقائق حتى حضر نزار، فقال له إياد: أخبر سيدتك بقصة المشرد التي جرت اليوم.

– فشرع يقصها حتى أتى على آخرها، فهدأت المرأة قليلا، وقالت: لِم لَم تخبرني من البداية؟

– وهل تركت لي مجالا للكلام.

– تقصد أني ثرثارة ولا أعرف أدب الحديث.

– أستغفر الله وأتوب إليه، أنا الجاهل بآداب الحديث والآن دعيني أنام، أنا المخطئ أعتذر، أتأسف، ماذا تريدين أيضا؟

– ثم أدار ظهره وأغمض عينيه محاولا النوم.

 

في اليوم التالي قام إياد إلى عمله فرأى غريبا متفانيا في عمله وأحس بأنه يسرق طفولته وجهده، ورأى أن معروفه لا يتم إلا بأن يجعله خالصا لوجه الله دون أن يشغل غريبا في المطعم.

فدعاه إلى مكتبه، وقال: اسمع يا بني، أنا رجل عقيم لا يولد لي، ومنذ الآن أنت كولدي، لست بعد الآن مطالبا بأي عمل، بل ستذهب إلى المدرسة وتتعلم كباقي الأطفال، وكل ما يلزمك أنا متكفل به، باختصار أنا لك منذ الآن كالوالد.

بعد شهرين بدأت زوجة إياد تفقد شهيتها للطعام، وأخذت تشعر بدوار وإشفاء على الإغماء، فأخبرت زوجها بذلك، فاصطحبها للطبيبة التي قامت بالكشف والتحاليل، ثم خرجت ضاحكة لتقول له البشارة: مبارك زوجتك حامل.

انتهت.  

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى