الهجرةُ والتَّهجيرُ والتَّغييرُ || كتابات فكرية || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ

الأستاذ: أبو يحيى الشامي

شرع الله الهجرةَ للفرد والجماعة المسلمة حال الخوف على الدين أولاً، وهو أولى الضروريات بالحفظ والعناية، فحياةُ المسلم دينه وهلاكه بترك دينه، أما النَّفسُ والعقلُ والعرضُ والمالُ فهذه ضرورياتٌ بحفطها يُحفظ المسلمُ ونسلهُ لكي يحفظوا الدين، فإن قصَّر المكلف في الفرار بدينه فإنه يتحمل عواقب فعله هذا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء : 97]، وفي الأمر تفصيلٌ واستثناءاتٌ محدَّدةٌ، قال جلَّ وعلا: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء : 98]، فمن استطاع حيلةً واهتدى سبيلاً ولم يهاجر فلا عذر له ويناله العقاب.

وإن الدين كلٌّ لا يتجزأ، لا مساومة على أساسياته ولا يصح التَّنازل عن أي منها، طالما أن الإنسان لم يصل إلى حالة الإكراه تامِّ الأركان، فإن أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان ولم يستطع تغيير الحال بهجرةٍ ولا غيرها، فإن الله غفورٌ رحيمٌ، هذا مع فهم الواقع فهماً دقيقاً للحكم على كل حالةٍ فالحالات كثيرةٌ متطورةٌ على مرِّ الزمن.

ما دفعني إلى الحديث عن هذا الموضوع غير ذكرى أعظم هجرة في التاريخ، هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام -ونعم الذكرى هي- أنه أثير في أكثر من مناسبةٍ من مناسبات الثورة السورية، وكان رأي البعض أن بقاء أهل المناطق الثورية المحاصرة تحت سيطرة النظام المجرم والمحتلين أفضل من القَبول بالتهجير الجماعيِّ إلى المناطق الثورية المحررة، وأهم حجةٍ يسوقونها منع التغيير الديمغرافي، حيث يسعى الأعداء لإحلال أعدادٍ من مؤيديهم وخاصة الرافضة من دولٍ أخرى مكان هؤلاء المهجرين.

وإن آخر ما يحسب شرعاً هو حساب خسارة الأرض عندما يُهدَّدُ الدِّينُ، هذه الأرض التي لم يخرج المُكلَّف منها إلا بعد استفراغ الوسعِ جهاداً، فأرض الله واسعةٌ واستعادتها ممكنةٌ، فيما تصعب التَّوبةُ واستعادةُ الدينِ وفي الغالب تكون مستحيلةٌ، إذا رضي المرءُ بالدَّنيةِ وطبع الله على قلبه، والعياذ بالله.

إن في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أكبرَ درسٍ دينيٍّ تاريخيٍّ في الحفاظ على المبادئ والأسسِ التي تأتي بما هو أدنى منها من مكتسباتٍ وإنجازاتٍ، ولو بعد حينٍ، والصبر على المبادئ لتحقيق المكتسبات قد يتطلب عشراتٍ من السنين، وربما المئات، وقد لا يتحقق إلا الحفاظُ على المبادئ، وهو المكسب والمنجز الأعظم، هكذا فعلَ مؤمنو الأخدود، فحكمنا وقياسنا ليس بالنظر إلى الدنيا الزائلة بل إلى الآخرة الباقية، وعلينا أن نؤدي المأمور به بالمقدور عليه.

لا ننسى أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر بأمر من الله من جوار بيت الله في أشرف بقعةٍ على وجه الأرض ليحافظ على الدين وعلى الجماعة التي تحمله، بعد هجرتين إلى الحبشة هاجرهما عدد من الصحابة بأهلهم المؤمنين، ولا ننسى أن ما بعد الهجرة إلى المدينة ما كان استقراراً واستكانةً، بل كان جهاداً بوسائل أشد وأقوى لإرغام الكفر وأهله.

في معرض الحديث عن صمود أهل درعا المحاصرين بعد أن وقعوا اتفاق مصالحةٍ مع النظام المجرم الغادر بشروطٍ ضَمِنها الاحتلال الروسي المخادع، قال ناشطٌ: إن تجربة أهل درعا المتمسكين بسلاحهم الخفيف خيرٌ من تجربة التهجير في باقي المناطق، وهذه المقارنة فيها نظرٌ، على الأقل من جهة مكان درعا القريب من الحدود مع الأردن والصهاينة اليهود الحريصين على حياتهم وأمنهم، وقوةِ وعدد وانتشار مقاتلي درعا، على عكس الحال في المناطق الأخرى التي كانت تحوي عدداً أقل من المقاتلين والعتاد، أو عدداً أكبر من المدنيين في مساحةٍ ضيقةٍ.

لست أبرر الهجرة هنا أو أدعو إليها إن كان خيار الصمود متاحاً، وحالَ القدرة على حفظ الدين والامتناع عن الركون إلى النصيريين المجرمين والمحتلين المخادعين، الذين إن لم يقضوا على المسلم بأيديهم يحتالون للقضاء عليه بيده وبيد أخيه، ولا أنكر هنا دور فصائل الشمال في الضغط على المناطق المحاصرة جميعها وتهجير أهلها، فلقد قصرت هذه الفصائل في نصرة المناطق الثائرة المحاصرة، والتقصير والخذلان مستمر إلى الآن واضح جلي لا يناقش.

كما لا يمكن ذكر حدود المعادلة دون ذكر أن الذين خرجوا من الحصار باتجاه الشمال وقعوا في حصارٍ ربما أشد منه، فمن كان يصاول العدو باستمرار ولا تهدأ بندقيته، أضحى الآن حبيس المقر والحاجز أو نقطة الرباط ولا يستطيع القيام بعمل باتجاه العدو، فلقد كبلت الثورة بالتنظيم الشمولي الخانق.

وأذكر هنا أن كثيراً ممن بقي في مناطق سيطرة النظام المجرم وممن خرج بالتهجير إلى المناطق الثورية المحررة يهاجرون يومياً باتجاه الدول المجاورة ودول أوروبا غالباً، ينفقون في هذا الطريق الأرواح وآلاف الدولارات!، فليس في البقاء صمودٌ مطلقٌ ولا في التَّحيُّزِ استمرارٌ في القتال حتى التحرير، هذا التسربُ والنزيفُ من ساح المعركة ننكره لكنه واقعٌ له أسبابٌ.

فما الحكم بعد قراءة هذه المعطيات المختصرة؟، إنها حالةٌ فريدةٌ تجعل الحليم حيراناً، ويتساءل العاقل: أين المشكلةُ الأساسُ التي تُعضِلُ كل المشاكل بسببها؟

إن ركون القوى الثوريةِ شمالاً للاتفاقات والوصاية الدولية والمصالح الشخصية والحزبية، تسبب في ضعف حال وآمال المناطق المحاصرة التي يئست من نَخوتهم ونُصرتهم، وتسبب في زهد مقاتليها بالهجرة إلى المناطق المحررة ليستكملوا جهادهم ضد أعداء الثورة والدين، فكيف السبيل إلى التَّحيُّزِ إلى فئة تَنصر وتُنصر؟.

إن المقاتل في درعا اليوم يرى أنه في حصاره حرٌ أكثرَ منه في المناطق المحررة، فيبقى أمله في الوصول إلى تسويةٍ تحفظ نفسه وأهله وكرامته في أرضه حتى حين، متمسكاً بالمبادئ الثورية وإن كان بسقف أخفضَ وبترتيبٍ مغايرٍ للأول الذي كان عليه قبل المصالحة، وإن هذا لن يكون، فالنصيريةُ والروافض يسعون للقضاء على الوجود السُّنِّيِّ الثوري في درعا، والمحتلُ الروسي يسعى لفتنتهم واستعمالهم مجندين وأدواتٍ عنده، وأي خيار آخر هو شبه منعدمٍ، والمسألة مسألة وقتٍ.

بناءً على هذا نعلم يقيناً أن المشكلة المُعضِلةَ في الشمالِ، في المناطق التي لا يحكمها النظام المجرم، لكنها التزمت بواقع الحال المستند إلى اتفاقاتٍ رفضها الشعب المسلم الثائر لكن ليس بيده حيلةٌ للانقلاب عليها وإنهائها، وهنا تماماً وليس في موضعٍ آخر يكمن الحل الشامل، إن وجدت القدرة، ولن توجد بغير اعتصامٍ حول مرجعيةٍ واضحةٍ صادقةٍ.

إن القدرة على تغيير الواقع تأتي من تغيير ما في الأنفس والاستعانة بالله وليِّ التوفيق، وإلا فإن المسار الحالي لا يبشر بخير، وإن مصير المنطقة المتبقية مصير المناطق المحاصرة سابقاً، إما تهجيرٌ ولم يبق إلا الشريط الحدودي الضيق ومؤقتاً، وإما مصالحةٌ مذلة مع النطام النصيري والمحتلين بعد كل هذه التضحيات، وإما التغييرُ والانطلاق من جديد، قال الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد : 11].  

هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى