اللص – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٤٣

⁨مجلة بلاغ العدد ٤٣ - جمادى الأولى ١٤٤٤ هـ⁩⁩⁩⁩⁩December 02, 2022

الأستاذ: غياث الحلبي

الظلام دامس والهدوء يسود المكان والسكون يعم الشارع، كان كسَّاب يسير بخطى حذرة نحو غايته، والحق أنه كان مضطربا جدا وقد كساه الخوف خلعة من القشعريرة وُشِّيت برجفة وطُرِّزت برهبة؛ فهذه هي المرة الرابعة التي يخرج فيها ليسرق؛ فقد أعجبه أن تأتي إليه الأموال دون كبير عناء وتعب.

كان كساب قد اكتسب هذه العادة من بعض رفاق السوء، ولكنه -تحسبا لأي خطر مستقبلي- رفض أن يكون شريكا لأحد في السرقة، وأخذ يعمل وحيدا دون أن يُطلع أحدا على سره، فكان يخرج بعد هدأة الليل ليسرق ما يصادف في طريقه؛ فقد تكون دراجة نارية أو هوائية، وقد تكون بطارية أو شاحنها أو منظم كهرباء أو رافع جهد، المهم ألا يعود إلى داره خالي اليدين.

كان كساب يسير بحذر باحثا عن صيد يقتنصه هذه المرة، وأرسل ناظريه يجولان بحثا عن شيء يسرقه، فأبصر عددا من نواشر الشبكة العنكبوتية، وفي الحال بدأ العمل على فكها؛ فتسلق جدارا قصيرا وراحت يداه تعملان بسرعة مع توتر شديد.

ولما انتهى من فكه سمع خلفه حركة فالتفت مسرعا متأهبا للفرار، ولكن ذلك لم يكن سوى هرة تبحث في القمامة القريبة عن طعامها.

وضع كساب الناشر في جيب سترته وانطلق عائدا إلى بيته، وفي الصباح ذهب إلى سوق الأدوات المستعملة وباع الناشر بربع ثمنه الحقيقي وقبض المال، فلما استقر في جيبه أخذت بقايا ضمير في صدره تصرخ فيه: هذا مال حرام، لن يبارَك لك فيه، وستنهمر عليك المصائب تترى، وستنفقه على أثمان الأدوية.

غير أن كسابا لم يكن مستعدا لسماع المزيد، فأخرس ضميره أو ما تبقى منه بوحشية واستمر في طريقه.

مرت أيام وزادت جرأة كساب وسرقاته، وبينما هو يسير في أحد الأزقة شاهد تجمعا للدراجات النارية أمام أحد المساجد، فأصحابها قد ركنوها أمام باب مسجد ثم دخلوا ليؤدوا فريضة الله عليهم، فرأى كساب في ذلك فرصة سانحة فبادر إلى إحدى الدراجات وكسر قفل رقبته، وسرعان ما ابتعد به، ليخرج صاحبه بعد فيجده مسروقا، فيمطر السارق بوابل من الدعوات تشق طبقات الجو صاعدة نحو السماء.

تعاقب الليل والنهار وتوالت الفصول، وكف كساب عن عد سرقاته لكثرتها، وضج الناس من هذا السارق الذي يسرق تعب الساعات الطوال وعرق العمال الذين يكدون ليأكلوا طعامهم حلالا، ثم يأتي هذا اللص الماكر ليذهب بذلك كله.

قرر أهل الحي أن يجعلوا نوبات حراسة ليمنعوا المزيد من السرقات ولعلهم أن يظفروا بهذا اللص، فكان كساب أشد الناس حماسة للأمر وأخذ نوبتين في الأسبوع بدل النوبة الواحدة، وبذلك تمكن من الاطلاع على نظام الحراسة وأماكن تواجد الحرس، وبالتالي لم تشكل هذه الحراسة مانعا له عن السرقة، وفي اليوم التالي للسرقة أخذ الناس يلومون حرس تلك النوبة الذين لم ينتبهوا إلى السارق، وكان كساب أشد الناس لوما لهم.

وإمعانا في تضليل الناس عنه قام في إحدى الليالي بفك “دفَّاع الماء” الخاص به وزعم أنه سُرق وطالب أن يغرم الحرس ثمنه، وملأ الحارة صراخا ولوما للحرس ودعاء على السارق بأن تقطع يداه.

وفي يوم من الأيام عاد حسين إلى داره بعد نهار طويل أمضاه في عمل مضن، ولما طلب من زوجه أن تُعد له ماء ليغتسل ويزيل عنه الأوساخ التي تراكمت على جسده نتيجة العمل اعتذرت إليه أن لا ماء، فقد سُرق “دَفاع الماء” وبالتالي لم يمتلئ الخزان، بل لم تصل إليه قطرة ماء واحدة.

غضب حسين غضبا شديدا، ولكن ما عسى الغضب ينفع، لقد سُرق “الدفاع” وانتهى الأمر، وتمنى حسين أن يعرف السارق حتى يقطعه بأسنانه، فهو قتر على نفسه وأسرته ليشتري هذا الدفاع ثم يأتي لص حقير فيسرقه دون أن يرف له جفن.

استكان حسين للأمر الواقع وصار عليه أن يعيد الكرة ليجمع ثمن دفاع جديد، وبعد أن اشترى حسين الدفاع الجديد قام بتركيبه، وأخذ يتحدث أمام كل أحد عن جودته، وكثرة النحاس فيه، وغلاء سعره، وقلة استهلاكه للكهرباء، وأنه يشكر السارق على سرقته للدفَّاع القديم الذي كان بطيئا مزعجا كثير استهلاك الطاقة، وأحضر حسين كلبا لحراسة منزله قائلا للناس: هذا ضمان لعدم سرقة الجهاز الجديد كما سُرق القديم.

تناهت إلى أسماع كساب فخامة هذا الدفَّاع الجديد فضحك في نفسه قائلا: غنيمة باردة جديدة، ثم قال مستهزئا: وماذا عساه يصنع الكلب أمام لص محترف خبير؟ مهلا يا نفس وصبرا دعي حسينا يتمتع بالماء أياما أو أسابيع حتى تطمئن نفسه ويركن لكلبه ثم يأتيه الخبر الصاعق قريبا.

وفي ليلة شديدة الظلام قصد كساب إلى بيت حسين فمر من أمامه مرورا سريعا وألقى بقطع لحم للكلب وابتعد عن المنزل، فما كان من الكلب إلا أن نبح قليلا ثم انشغل بأكل اللحم فليس في المكان أحد يستدعي منه النباح، وبمجرد أن أكل الكلب اللحم غلبه النعاس ونام نوما ثقيلا فقد كان اللحم محقونا بكمية كبيرة من المخدر والمنوم.

وبعد قليل عاد كساب لغنيمته الباردة وبهدوء شديد قام بفكه ثم رويدا رويدا أخذ بسحبه، وفجأة شعر كساب بحرارة شديدة وسطع أمام عينيه ضوء مبهر ثم لم يشعر بشيء.

ولما استيقظ وجد نفسه في المستشفى وقد لُف بالضمادات حتى كأنه مومياء فرعونية وكل جزء من جسده يؤلمه، فحاول أن يتذكر ما جرى، ووجد في المستشفى بعض جيرانه فسألهم عما جرى، فأخبروه أن قنبلة يدوية منزوعة الأمان كانت موضوعة خلف الدَّفَّاع بحيث تنفجر عند محاولة سرقته.

فشعر كساب بحياء شديد فقد كُشف أمره إذن وفُضح أمام أهل الحارة جميعا، ومع ذلك فقد لمح نظرة حزن وأسى في وجوههم.

فعاد يسألهم: ماذا أصابني؟ وهل جروحي خطيرة؟

وقبل أن يجيب أحد برز من الصف الخلفي رجل من جيرانه، وقال له: أتذكر يوم سُرق “دَفاع الماء” الخاص بك؟ وشعر كساب بخجل شديد، وقبل أن يجيب تابع الرجل قائلا: يومها دعوتَ الله أن تُقطع يدا السارق، ويبدو أن الله قد استجاب دعاءك.

 

انتهت. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى