الأسير (6) مجلة بلاغ العدد ٥٠ – ذو الحجة ١٤٤٤هـ
الأستاذ: غياث الحلبي
كانت ميساء وأم هاني لا تنفكان تترددان بين قريتهما ومدينة حماة تتمسكان بكل خيط يبدو لهما ولو كان أوهى من خيط العنكبوت؛ طرقتا كل باب ذُكر لهما بداية من صغار الشبيحة ومرورا بقادة اللجان الشعبية وانتهاء ببعض الضباط من رتبة العقداء أو العمداء، والنتيجة ككل مرة وعود معسولة لكن الأمر يحتاج إلى مال، حتى اضطرت ميساء إلى بيع آخر قطعة من مصاغها الذهبي.
وكلما ظنتا أنهما شارفتا على نهاية الطريق قال لهم الوسيط الجديد: إن سابقه كان نصابا ويجب ألا تثقا بسواه، وسرعان ما يتكرر الأمر نفسه حتى انقطع لديهما الأمل ويئسا من هؤلاء القوم، لا سيما أن قريتهما قد تحررت وغدا الذهاب منها إلى حماة يتطلب جهدا كبيرا ومرورا على عدد هائل من الحواجز التي تحوي أراذل البشر وحثالة الآدميين، وبعضهم لا يستحي أن يوجه إلى ميساء كلاما وقحا أو يشير إليها بعينه بغمزة فاجرة.
لزمت ميساء القرية وصرفت عنايتها إلى طفلها الذي بلغ من العمر ثلاثة أشهر، وكانت لا تمل تحدثه عن أبيه الذي طال شوقها له، وكثيرا ما كانت تدخل في دوامة أحلام اليقظة فتسرد عليه أن أباه سيأتي غدا وسيستقبلونه بالفرح والسرور وسيأخذ طفله بين ذراعيه ويملأ وجهه بالقبل ويمسح دموعها الحرى بيده ويبتسم الدهر لهم مجددا وتملأ دارهم فرحا كما ملأت ترحا، وتسهب ميساء في أحلامها لتنتبه بعد ذلك وتجد يديها صفرا من ذلك كله فتعود إلى البكاء وإلى التضرع إلى الله وسؤاله الفرج وصب اللعنات على المجرمين قساة القلوب الذين دمروا حياة هذه الأسرة الصغيرة.
عانت ميساء وطفلها من شظف العيش وقلة النفقة، فمع أن أم هاني كانت تساعدها كثيرا غير أنها بحسها الأنثوي كانت تخشى أن يأتي يوم لا تجد فيه من يساعدها، فكانت تدخر المستطاع خشية أن يأتي ذلك اليوم الأسود، ولم يطل انتظاره على كل حال فقد استيقظت ميساء ذات صباح على صوت القصف الذي ترجم به طائرات السوخوي القرية، ولم يمض كبير وقت حتى علمت أن حماتها أم هاني قد استشهدت وتحول بيتها إلى كومة من ركام وأنقاض.
دارت الأرض بميساء وشعرت أنها فقدت ركنا متينا كانت تستند إليه ويعينها على مصاعب الحياة، أما الآن فقد صارت وحيدة، وحيدة تماما.
يتبع في العدد القادم إن شاء الله.