فاستكبروا في الأرض || الركن الدعوي ||مجلة بلاغ العدد الثالث والعشرون
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
وقفات مع قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر 42 – 43].
– معنى الكبر:
في الحديث النبوي قال صلى الله عليه وسلم: “الكبر بطر الحق وغمط الناس“. وقال صاحب تاج العروس: “الكِبْرُ: حالةٌ يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره”. وقيل الكبر هو: “استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له”.
والكبر صفة ثابتة لله عز وجل وحده قال تعالى: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة الجاثية 37] أَيْ: هُوَ الْعَظِيمُ الْمُمَجَّدُ، الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ خَاضِعٌ لَدَيْهِ، فَقِيرٌ إِلَيْهِ. وقد ورد في الحديث الصحيح: “يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْعَظَمَةُ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَسْكَنْتُهُ نَارِي“.
– الإعراض عن الحق أصل الضلال:
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) فلم يكن ضلالهم بسبب عدم مجيء نذير خاص بهم، ولذلك ما زادهم مجيء النذير إلا بعدا عن الحق، فلا يزيد النور القلوب العمياء إلا عمى، قال تعالى: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [سورة طه 126] فالجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا) أي جزاءً موافقا لأعمالهم وما فعلوه في الدنيا، فمن تعامى عن الحق أعمى الله بصيرته في الدنيا والآخرة، ومن نسي الحق نسيه الله في الدنيا والآخرة، ومن آذى الناس آذاه الله في الدنيا والآخرة وهذا كله (جَزَاءً وِفَاقًا) (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا).
– الكبر أهم أسباب هذا الإعراض:
(اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ) فهذا سبب ازدياد نفورهم بعد مجيء النذير لهم وهو الاستكبار في الأرض؛ فإن عاقبة التكبر الابتعاد والصرف عن الحق والهداية، قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [سورة الأعراف 146]
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) قال ابن كثير: “﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أَيْ: يَدْفَعُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ أَيْ: مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَاحْتِقَارٌ لِمَنْ جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَيْسَ مَا يَرُومُونَهُ مِنْ إِخْمَالِ الْحَقِّ وَإِعْلَاءِ الْبَاطِلِ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلِ الْحَقُّ هُوَ الْمَرْفُوعُ، وَقَوْلُهُمْ وَقَصْدُهُمْ هُوَ الْمَوْضُوعُ”.
فالكبر عند الجهال هو تعلق بالسلطة والعلو في الأرض يمنعهم من الانقياد للحق، قال تعالى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس 78].
– المكر السيئ سبيل المعرضين:
(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) المكر السيئ سبيل المتكبرين الذين أعرضوا عن اتباع الحق وأرادوا أن يضل الناس فينحرفوا أيضا عن جادة الصواب، كما كان حال فرعون مع قومه عندما أعرض عن الحق وأراد أن يمكر بموسى ومن معه فقال لقومه وهو يزين لهم مكره: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ).
وجاء في موقف آخر حين كان يعرض موسى عليه السلام الحق على فرعون ويبين الدين القويم فاتهمه بالجنون، ولما كان موسى عليه السلام ثابتا ما كان من فرعون إلا أن قال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وهذه طريقة الطغاة في التعامل مع المصلحين والدعاة حين يرفضون النزول عند رغبتهم وما يريدون.
– ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله:
يقول الإمام السعدي في تفسيره رحمه الله: “(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل (إِلَّا بِأَهْلِهِ) فمكرهم إنما يعود عليهم، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات، أنهم كذبة في ذلك مزورون، فاستبان خزيهم، وظهرت فضيحتهم، وتبين قصدهم السيئ، فعاد مكرهم في نحورهم، ورد اللّه كيدهم في صدورهم”.
والتاريخ كله نماذج من الطغاة والأمم المتكبرة فيها العظة والعبرة، فهذا إبليس كبير المتكبرين بعد أن كان من المقربين من رب العالمين أصبح من المبعدين، يقول تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [سورة البقرة 34].
وأجمل الله عاقبة قوم من المتكبرين فقال سبحانه: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة العنكبوت 38 – 39].
– فلنحذر الكبر، فهو نقيض الإيمان والعمل الصالح قال تعالى في ثواب المؤمنين والمتكبرين: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [سورة النساء 173]، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” رواه مسلم.
والعاقبة للمتقين الهينين اللينين فقد ورد أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بمن يحرم على النَّار، وبمن تحرم النَّار عليه؟ على كلِّ هيِّن ليِّن قريب سهل” “أي: من النَّاس بمجالستهم في محافل الطَّاعة، وملاطفتهم قدر الطَّاعة، سهل أي: في قضاء حوائجهم، أو معناه: أنه سمح القضاء، سمح الاقتضاء، سمح البيع، سمح الشِّراء”.
– أسأل الله عز وجل أن يرزقنا قلبا سهلًا هينًا لينًا، وأن يجعل قلوبنا رحيمة بالمسلمين شديدة على الكافرين، وأن ينتقم من الطغاة والبغاة والظالمين والمجرمين والمتكبرين، وأن يولي أمر المسلمين من يرحمهم وييسر عليهم أمر دينهم ودنياهم، وأن يبعد عنهم من يشق عليهم أمر دينهم ودنياهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.