وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ – الركن الدعوي – مجلة بلاغ العدد ٥٩ – رمضان ١٤٤٥ هـ – March 19, 2024
الشيخ: أبو حمزة الكردي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد؛
حث الإسلام الحنيف على محاسن الأخلاق ومكارمها كالجود والإنفاق والشهامة والنخوة والعفو والصفح وحفظ الدين والعرض واللسان، بل وأمر بها وأكثر من ذكرها:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}[الحجرات:12-11].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ» صحيح البخاري.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» أخرجه الترمذي.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قلتُ: يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ!، قال: «أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ» رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يرحمْ صغيرَنا، ويُوَقِّرْ كبيرَنا» متفق عليه، وكثيرة هي الأحاديث الداعية إلى الخير الناهية عن الشر.
وفي المقابل لحفظ هذه الحقوق وعدم امتهانها والاعتداء عليها حد حدودًا لمن أخطأ واعتدى على حرمات الله وحقوق العباد أو انتهكها، هذه العقوبات حفظ لحقوق الله على عباده وحقوق العباد بين بعضهم وطريقة التعامل فيما بينهم:
فما من مسلم يعتدى على حد من حدود الله أو يجاوز المأمور به في الآيات الربانية والوصايا النبوية؛ إلا وجب عليه التكفير بقدر ما اقترف من خطأ وقف ما حدد الشرع، سواء في حق نفسه أو في حق أخيه المسلم أو حق الأمة، فقد كره الله لعباده الهوان والضعف والذل، وأن يعمل فيهم القتل والظلم والفساد، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}، فبين أمورًا عدة، منها:
*المؤمن القوي خير وأحب إليه من الضعيف:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «..الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ..» صحيح مسلم، والمؤمن قوي البدن والعقل والحجة والدليل والحق والشجاع المدافع عن حقه وأمته ودينه أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف المهزوز الخائف الجبان المستباح في مقدساته.
*المؤمن الأعلى خير من الأدنى:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ وهو علَى المِنْبَرِ، وذَكَرَ الصَّدَقَةَ، والتَّعَفُّفَ، والمَسْأَلَةَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُلْيَا: هي المُنْفِقَةُ، والسُّفْلَى: هي السَّائِلَةُ» صحيح البخاري، فاليد التي تعطي القوة والعدل والحق والإنصاف وترد المظالم وتنشر العطف والحنان والعطاء والمال خير من اليد السفلى التي تنتظر من يعطيها ويتصدق عليها وينصرها ويحنو عليها ويدافع عنها.
*الاعتداء والأذى والمعاصي من صفات الجاهلية:
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أنَّهُ سَابَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَعَيَّرَهُ بأُمِّهِ، قالَ: فأتَى الرَّجُلُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ له، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ…» رواه مسلم.
ثم بين تبارك وتعالى عدة أمور مهمة من حقوق المظلوم تجاه من ظلمه واعتدى عليه، ومنها:
1 – المعاقبة بالمثل:
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}[الشورى:126].
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم به} [النحل:126].
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:179].
وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة:194].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ}[البقرة: 178].
وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[المائدة:115].
2 – الانتصار للنفس لمن بغي عليه:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى:41-39] جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله قوله: “أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بعاجزين ولا أذلة، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم”.
3 – الدعاء على الظالم:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليَمَنِ، فَقالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فإنَّهَا ليسَ بيْنَهَا وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» صحيح البخاري.
قاعدة مهمة؛ من ملك عفا ومن لم يملك لم يعف:
وهي أن العقاب مقدم على العفو، وما ذكر رب العالمين العفو في موضع من القرآن إلا سبقه بالقصاص وأخذ الثأر، وأن العفو يكون عند تحقق القدرة فقط، فمن لم يقدر لم يعف، بمعنى أن من قدر على تحصيل حقه وتمكن منه فله أن يقتص من ظالمه أو يعفو عنه، أما من لم يقدر على ظالمه ولم يتمكن منه كيف يعفو ويصفح عن شيء غير موجود، ومثله كمن يقول: أنا زاهد في أكل اللحم وهو فقير لا يقدر على شراء اللحم ولو ملك المال لاشترى وأكل، أو كمن يقول: أنا زاهد في السفر والسياحة وهو فقير معدم ليس معه مال ولو حصّل المال لسافر وساح.
وقد ذكر القرآن آيات الفضل الداعية إلى العفو والصفح والإحسان بالمغفرة لكنها في مجملها كانت مسبوقة بالمعاقبة بالمثل والانتصار للمظلوم ورد بغي الظالم والسيئة بمثلها، فالإسلام دين الأقوياء لا الضعفاء، دين الانتصار والثأر لا الهزيمة والنسيان، دين الانتصار للمظلوم قبل الصفح عن الظالم، دين رد الحقوق إلى أهلها إلا أن يعفو بعد القدرة:
قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}[الشورى:40-41].
قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ}[النحل:126].
قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}[المائدة:115].
قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:179].
ختامًا؛ لابد من تطييب خاطر أهل الحقوق بعد استيفاء حقوقهم كاملة إليهم وتعويض النقص والضرر، تحللًا من صاحبها أن تمكنه من حقه في الدنيا قبل أن يقتص منك يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ أخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه» صحيح البخاري، فقد تفتدي اليوم من ذنوبك بالمال والدرهم والدينار والاعتذار، ولكن يوم القيامة لا يُقبل منك إلا أخذ حسانتك أو طرح السيئات عليك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدُّنَّ الحُقوقَ إلى أَهلِها، حتَّى يقادَ الشَّاةُ الجلحاءُ منَ الشَّاةِ القرناءِ» رواه مسلم.
لذا فلينته من يعتدي على المسلمين أو يؤذيهم وليتحلل من ذنوبه وجرائمه قبل أن يأتي يوم القيامة مفلسًا؛ عن أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟ إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ» رواه مسلم.
واليوم عمل ولا حساب فغدًا حساب ولا عمل؛ فأحسنوا أعمالكم وأخلصوها وردوا الحقوق إلى أهلها فإنكم عليها محاسبون.
وليكن في الحسبان أن بعض الجروح قاسية لا تنسى:
ومن ذلك قصة وحشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعن وحشي بن حرب رضي الله عنه قال: “فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: آنْتَ وَحْشِيٌّ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ؟» قُلتُ: قدْ كانَ مِنَ الأمْرِ ما بَلَغَكَ، قَالَ: «فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُغَيِّبَ وجْهَكَ عَنِّي؟» قَالَ: فَخَرَجْتُ” صحيح البخاري، فانتبهوا أن تؤذوا المسلمين في أشياء يكرهونها أو تؤذيهم فلا ينفع الندم والاعتذار بعد الوقوع في المصيبة.
واعلموا أنه لا شفاعة في حد من حدود الله ولا في حقوق المسلمين وما تشارك فيه:
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، “أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» رواه البخاري.
وحينما ذكر تعالى في كتابه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراض:199]المقصود بالعفو هنا الزائد من المال الذي تعفو عنه نفوس المتصدقين كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: “خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه، وكان هذا قبل أن تنزل “براءة” بفرائض الصدقات وتفصيلها، وما انتهت إليه الصدقات”.
ومن أعظم الأمثلة الدالة على أن العفو بعد المقدرة لا قبلها فعل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:
محمد صلى الله عليه وسلم؛ عندما دخل مكة مكبرا ومهللا قد تمكن من أهالي قريش وقد ساموه وأصحابه سوء العذاب وألقوا عليه جزور جمل وسبوه وشتموه وعذبوا أصحابه وقتلوا خيرتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ قريشٍ ما ترَونَ أنِّي فاعلٌ بكم؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، فقال: «اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ».
يوسف عليه الصلاة والسلام؛ بعد أن تمكن من إخوته وصاروا بين يديه يقدر أن يقتلهم أو يسجنهم أو يحاسبهم ويشفي سريرة صدره من الأذى الذي تعرض له من رق وعبودية وشراء وسجن وقذف بالزنا واتهام بالاعتداء على زوجة العزيز، فعندما علم إخوة يوسف أن عزيز مصر هو أخوهم يوسف وأنهم محاسبون {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ} يوسف الذي باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، هاهنا في هذه اللحظة الفارقة أجابهم: {أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} بعد أن أحسوا بعظيم جرمهم وما اقترفته أيديهم وأن لا مفر من الحساب والعقاب أجابهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:90-92].
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، وجنبنا الوقوع في الذنوب والخطايا التي تورث البغض والبعد عن عفوك ومغفرتك وجنتك، وارزقنا عملًا صالحًا يقربنا منك ومن رحمتك وجنتك وعبادك الصالحين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.