تحت الركام – الواحة الأدبية – مجلة بلاغ العدد ٣٩ – المحرم ١٤٤٤ هـ
تحت الركام
الأستاذ: غياث الحلبي
لا تزال ندى وأخواتها تحتفظن ببعض المال الذي جمعنه في أثناء عيد الأضحى من أقربائهن، فقد كن ككل الأطفال يحببن العيد الذي يعني لهن جمع العيديات وأكل الحلوى وشراء الألعاب والذهاب إلى مدينة الملاهي لركوب المراجيح أو القلابات أو الانسياب على الزحلوقات، ويزيد عيد الأضحى على الفطر بمداعبة الأغنام ومشاهدتها وهي تذبح، ومن ثم الحصول على قسط لا بأس به من لحم الغنم ممن ضحى من المعارف أو الأقارب.
لقد مضى أسبوعان على انتهاء عيد الأضحى، ولم يخل يوم من شراء ندى وأخواتها بعض الحلويات أو أطعمة الأطفال “الأكلات” وذلك بسبب اتباعهن خطة تقشف في الإنفاق تفوق خطة اليونان التقشفية بمراحل، وقد اقتضت تلك الخطة ألا تتجاوز النفقة بضع ليرات يوميا، كما نصت بشكل واضح لا مواربة فيه أن يكون الشراء مرة واحدة في اليوم على ألا تحتوي شيئا من الألعاب، ويكتفى منها بما سبق وتم شراؤه أيام العيد أو قدم لهن هدايا على قلتها، فقد تناقصت كمية الهدايا والعيديات كثيرا بعد هجرتهن من قريتهن الزيادية الواقعة في ريف حماة بعد أن كثف النظام قصفه لها، حتى أحال كثيرا من بنيانها إلى أكوام من ركام.
وعقب الهجرة تفرق أهل الزيادية في أرجاء الأرض؛ فمنهم من نأى حتى بلغ أوربا، ومنهم من ألقى عصا تسياره في تركيا، وآثر فريق آخر أن يبقى في المحرر ويصبر على مر الحياة محافظا على دينه وكرامته، وكان من هذا الفريق والد هؤلاء الفتيات؛ فقد استقر بهم النوى في ريف جسر الشغور، وحنينهم لا ينفك يزداد إلى قريتهم لا سيما عندما ترتفع الأسعار عقب تذبذب الليرة التركية وإصابة كثير من التجار بسعار الطمع فيجدونها فرصة لزيادة أرباحهم وإتخام بطونهم ولو كان ذلك على حساب المجاهدين الذين لولاهم بعد الله لما استطاع تاجر أن يربح قرشا، أو على حساب المهجرين الذين أضناهم الفقر ومص دماءهم ارتفاع أجور البيوت، عندها لا يجد والد الفتيات سوى أن يحسبل ويلعن النظام الذي أخرجهم من ديارهم، وتقفز إلى ذهنه صورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصيب بعضهم بالحمى فارتمى أرضا من شدة الوعك وراح ينشد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
ثم يأخذ يلعن أبا جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة الذين أخرجوا المسلمين من مكة، فيهدأ قليلا ويجد له أسوة بهؤلاء الأطهار الأخيار ويرى من تمام الأسوة لعن بشار وماهر ونصر اللات ولافروف وخامنئي ومخلوف وآصف والبوطي وحسون وبوتين وكل ظالم ومجرم.
مضت سنتان قبل أن تحل المصيبة الكبرى التي أنست والد الفتيات ووالدتهن جميع المصائب الفائتة، كان ذلك ليلة الجمعة وقد احتشدت الفتيات في فرشهن وقد ضمت كل واحدة إليها لعبتها الجميلة التي اشترتها في العيد، وغفت عيونهن الجميلة وهي تحلم بغد مشرق يلعبن ويتراكضن فيه، ولكن ذلك الغد لم يأت أبدا، فبعد طلوع الفجر وقبل أن تنشر الشمس ضياءها على الأرض ممزقة بأشعتها قطع الليل المظلم كانت طائرة روسية متخمة بأنواع القنابل والصواريخ تحلق في سماء جسر الشغور وريفها، وفي قمرة قيادتها قبع رجلان روسيان قد فارقا الإنسانية منذ زمن طويل وطلقاها طلاقا بائنا لا رجعة فيه ولم يبق فيهما من الإنسانية سوى أشكالها الظاهرة، أما بواطنهما فقد جمعت من كل حيوان أخس صفاته؛ فأخذت من الثعالب مكرها، ومن الذئاب غدرها، ومن الضباع خستها، ومن الخنازير قذارتها، ومن التماسيح كذبها، ومن الكلاب وضاعتها، ومن الدببة همجيتها، ومن الأفاعي خبثها، ومن السباع قسوتها.
حدد الطيار هدفه -ولم يكن سوى بضعة بيوت يسكنها النازحون والمهجرون- ثم أمطر البقعة بحمم طائرته من صواريخ وقنابل، وقهقه بصوت مرتفع قائلا: نوما هنيئا يا صغاري، ثم التفت إلى رفيقه قائلا: لقد قدمنا خدمة عظيمة لهؤلاء، فلن يعانوا من متاعب الحياة ومصاعبها بعد اليوم، لقد أرسلناهم إلى الجنة، وتضاحك المجرمان بعنف، واستدارا بطائرتهما عائدين إلى وكر إجرامهما مطار حميميم.
انفجرت الحمم مصدرة أصواتا رهيبة جاعلة من الأبنية تلا من ركام، وسارع الدفاع المدني بآلياته ليرفع الركام وينقذ من يستطيع إنقاذه، كما احتشدت مجموعات من الناس لتسعف الجرحى وتسهم في المساعدة.
رفع الركام أخيرا لتبدو أربع جثث لفتيات صغار في عمر الزهور، تلمع مسحة البراءة والطهر على وجوههم الغضة التي توشحت بالغبار واختنقت تحت الردم.
نجا الوالدان من الموت واستُخرجا من تحت الردم أحياء، ارتمت الأم منهكة القوى محطمة الفؤاد على جثث صغارها تقبلها وتشمها وتغسل بدموعها الغبار الذي علا وجوههم البريئة.
أما والدهم فأخذ يقلب الأجساد الطرية بين يديه ويقول: “ما أحلاكن يا بابا”، “خليلي هالشعر”، ويتبع ذلك بدعاء حار من قلب مكلوم على بشار وروسيا ليذوقوا من الكأس الذي أذاقوا منه الأبرياء.
كانت الشمس قد ارتفعت وزاد حرها عندما وُضع الأطفال في السيارة ليودعوا باطن الأرض بعد أن ضاق عليهم ظاهرها، وقبل أن ينطلق السائق بالسيارة استمهله والد الأطفال، ثم ذهب وأحضر غطاء رقيقا وفرشه فوق الجثث الأربعة، قائلا: الشمس حارقة، فكفى هذه الوجوه النيرة ما أصابها.
انتهت.
لتحميل نسخة BDF من مجلة بلاغ اضغط هنا
لمتابعة بقية مقالات مجلة بلاغ اضغط هنا