تأملات فيما تحققه الطالبان من انتصارات || كتابات فكرية || مجلة بلاغ العدد ٢٧ – المحرم ١٤٤٣ هـ
الأستاذ: حسين أبو عمر
اليوم، وقبيل أن أبدأ بكتابة هذه المقالة، أتت الأخبار من أفغانستان عن أن حركة “طالبان” بسطت سيطرتها على مدينة “غزني” بالكامل.. تلك المدينة التي كانت الحركة قد دخلتها، قبل أكثر من ثلاث سنوات، تحديدًا في بداية شهر ذي الحجة من العام ١٤٣٩ هـ، آب ٢٠١٨، وبقيت مسيطرة عليها لمدة خمسة أيام. كانت تلك هي المرة الوحيدة التي سيطرت فيها الحركة على مركز ولاية منذ انحيازها عن المدن في بداية الحرب ٢٠٠١.
رصدت “طالبان” يومها كل الطرق المؤدية إلى المدينة، وضربت كل الأرتال التي حاولت التقدم باتجاه المدينة، حتى رتل الأمريكيين أجبر على التراجع وقتها بعد تدمير عدد من المدرعات في ولاية “وردك”.
ثم انسحبت “الحركة” من المدينة بعد أن شنَّ سلاح الجو الأمريكي الكثير من الغارات على الأسواق ومنازل المدنيين؛ سقط خلالها في يوم واحد، في اليوم الخامس من سيطرة طالبان على المدينة، أكثر من مائة وعشرين مدني بين شهيد وجريح، ثم قامت القوات الأمريكية بعمليات إنزال جوي كبيرة للقوات الأفغانية في المدينة.
حملت تلك الخطوة الكثير من الرسائل والإشارات: فيما يتعلق بقوة الحركة وقدرتها على السيطرة على المدن -وهو ما أرادت الحركة إيصاله للأمريكيين من دخول المدينة-، وفيما يتعلق بالاستراتيجية العسكرية التي تتبعها الحركة؛ فالحركة عندما لم تسع إلى السيطرة على مراكز الولايات والمدن في السابق لم يكن السبب عجزا، وإنما لتجنيب نفسها الاستنزاف في الدفاع عن المدن، ولتجنيب المدنيين القتل والدمار.. من الملاحظات التي ذكرها أبو مصعب السوري في “إدارة وتنظيم حرب العصابات” حول موضوع الخطة الاستراتيجية، عندما يكون العدو متفوقا عليك في القوة تفوقا كبيرا: «ضرورة تجنب الصدام المكشوف وحرب التمركز ضد الجيش النظامي».
ولأن هذا الاستنزاف البشري والمادي له دور كبير في كسر معنويات المقاتلين والحاضنة، ودفعهم إلى الاستسلام، قال صموئيل هانتنجتون في كتاب “صراع الحضارات”: «عندما تصل الخسائر إلى عشرات أو مئات الألوف، ويصل عدد اللاجئين إلى مئات الألوف، وتتحول مدن مثل (بيروت) و(غروزني) و (فوكوفار) إلى أنقاض، يبدأ الناس في الصراخ: (…جنون… جنون… كفى… كفى!!)». لذلك كانت الحركة تتجنب السيطرة على المدن.
ومن الملاحظ كذلك، أن الحركة عندما سيطرت على المدينة، وقتها، لم تتخذ أسلوب الدفاع عن المدينة من على أسوراها أو من داخلها (أسلوب الدفاعات الثابتة)؛ إنما نصبت الكمائن وقطعت الطرق المؤدية الى المدينة (أسلوب الدفاعات المتحركة)؛ فالحركة وإن سيطرت على المدينة، فقد بقيت محافظة على استراتيجيتها العسكرية، ولم تغرها السيطرة على المدينة فتدفعها إلى تبديلها…
* العوامل التي أدت إلى انتصار الحركة كثيرة، منها:
– تقوى الله،
– الثبات على المبادئ وعدم التلون،
– استحواذ القادة على احترام وثقة الجنود والشعب،
– تقديم العلماء والكفاءات،
– غياب الاستبداد والتفرد،
– الاستراتيجية العسكرية الصحيحة لموازنة التفوق المادي لدى العدو،
– الصبر وعدم استعجال قطف الثمرة وحرق المراحل،
– وضوح مفتاح الصراع الذي تلتف حوله جموع المجاهدين وعدم التنازل عنه، وهو: (إخراج القوات الأجنبية، النداء إلى نظام الحكم الإسلامي)،
– اتزان الخطاب السياسي…؛
وعوامل أخرى ليس المقصد هنا تقصيها كلها بالتفصيل.
* هل هُزمت أمريكا في أفغانستان أم انسحبت لتوريط الصين؟
ما زالت تخرج بعض التحليلات التي تنزع صفة النصر عما حققته “طالبان” في أفغانستان، وصفة الهزيمة التي لحقت بالأمريكيين.. ولتظهر أن أمريكا انسحبت لتوريط بعض الدول في أفغانستان!!…؛ وإن كنا لا ننفي وجود بعض المكر في قضية الانسحاب، إلا أنه يوجد تضخيم زائد لقضية المكر في محاولة للتغطية على هزيمة أمريكا وخسائرها في أفغانستان -قدرت بعض الدراسات حجم الخسائر الأمريكية بترليوني دولار!!- ربما يكون الدافع الكامن وراء هذا التضخيم هو تبرير الفشل الذي منيت به تلك الجماعات والأشخاص..
كما أنه يوجد تهويل مبالغ فيه في حجم الفوضى الذي سيحل بالإقليم بعد خروج القوات المحتلة من أفغانستان.
اللافت للنظر! أن معظم هؤلاء المغالين في “نظرية المؤامرة” في قضية خروج أمريكا من أفغانستان، كان قد أرجع سبب غزو أمريكا لأفغانستان إلى “نظرية المؤامرة” أيضا؛ قال بعضهم: إنه بعدما طرح رئيس الوزراء الروسي السابق يفجيني بريماكوف فكرة “مثلث بريماكوف” = تحالف يضم كلا من (روسيا والصين والهند) كموازن استراتيجي لنفوذ الغرب، قررت أمريكا احتلال أفغانستان لتقطع أوصال هذا “المثلث”!.. بل إن البعض غالى إلى درجة أن زعم أن أمريكا هي من افتعلت أحداث ١١ سبتمبر لتحتل أفغانستان، وتكون في قلب المثلث!!.
وهنا لا بد من وقفة مع هذا الفهم السياسي!:
أولا: تصور إمكانية تطبيق فكرة “مثلث بريماكوف” يدل على عدم فهم لطبيعة العلاقات التي تربط هذه الدول ببعضها!؛ فالعلاقات (الصينية – الهندية) لا يمكن أن تكون علاقات تعاون وتحالف، بل هي علاقات تنافس وصراع مستمر.
الأمر الثاني: لو افترضنا أن أمريكا أخذت فكرة “مثلث بريماكوف” على محمل الجد؛ فهناك أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو: أن تفوق الولايات المتحدة العسكري يكمن في قوتها البحرية والجوية، وأفغانستان دولة حبيسة؛ لا منافذ بحرية لها؛ فما هي الميزة التي ستحصل عليها الولايات المتحدة عندما تنزل قواتها البرية في دولة حبيسة في وسط من هذه القوى المعادية -إن صحت تسميتها أنها كلها معادية-؟!!
والعجيب! أن الكثير من هؤلاء يقول عن طالبان: إنها ينقصها الوعي السياسي!!
أما الكتاب الأمريكيون الذين تناولوا هذا الموضوع، وإن تنبهوا ونبهوا على موضوع دول الإقليم، إلا أنهم لم ينفوا أن أمريكا تُستنزف في أفغانستان، وأنها تخسر من قوتها ومكانتها بسبب الحرب التي تخوضها هناك، فهذا زيبغنيو بريجنسكي، أحد أشهر المفكرين الأمريكيين ومستشار أمن قومي سابق، يقول في كتاب “رؤية استراتيجية”: «إلا أن كبار استراتيجيي هذه القوى (الصين – روسيا – الهند) يبقون في الوقت نفسه منتبهين، من دون أدنى شك، إلى أن تورط أمريكا المستمر في المنطقة دائبٌ على إضعاف مكانتها العالمية حتى وهي عاكفة على تبديد أخطار محتملة مهددة لأمن بلدانهم»؛ فبريجنسكي لم ينف التورط الأمريكي والاستنزاف في أفغانستان.
* نظرة أكثر شمولية:
بقي أمر نختم به، وهو تعليق على جملة قالها هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”: «تبين أن التحذيرات الأولية حول تاريخ أفغانستان بوصفها أنها “مقبرة للإمبراطوريات” تحذيرات بلا أساس. فبعد عمل سريع قادته قوات أمريكية، وبريطانية، وأفغانية حليفة، تمت إطاحة الطالبان وإخراجه من السلطة». واليوم تثبت أفغانستان أن كيسنجر كان متسرعا في إصداره للحكم، وتثبت الحقيقة التاريخية من أنها “مقبرة للإمبراطوريات” مرة أخرى.
في ١٢ آب 2018، استضافت قناة فونيكس الألمانية الصحفي الصيني “شي مينغ” في برنامج (internationaler frühschoppen)، قال شي مينغ خلال اللقاء: «الخلاف الاقتصادي بين الولايات المتحدة وأوروبا هو اختلاف ضمن العائلة الواحدة، ولن يطول». قال هذا الكلام عندما كان ترامب يخوض حربا تجارية، ويفرض رسوما جمركية على الواردات من معظم دول العالم بما فيها دول أوروبا، وقد صدق مينغ في قراءته؛ فقد انتهت الحرب التجارية، وعُلقت بعض الرسوم الجمركية بعد مجيئ بايدن إلى الحكم. تلك الحرب التجارية التي كانت مشتعلة في زمان ترامب لم تؤثر على قراءة “شي مينغ” للمشهد.
في قراءة مسيرة التاريخ، نفسيات وطبائع الشعوب، سياسات الدول…؛ لا ينبغي للإنسان أن يكون أسير لحظة معينة، أو أحداث طارئة، أو مكان معين، أو أية جزئية عابرة، فيستنبط منها أحكاما عامة، أو يبني عليها مواقف كبيرة؛ بل يجب عليه أن يبقى محافظا على النظرة الشمولية للمشهد زمانا ومكانا..
الأمة الإسلامية اليوم في طور نهوض، والمستقبل لها؛ كما يقول حتى الكثير من الباحثين الغربيين، فلا يجوز أن نقع أسرى اللحظة الراهنة أو لتجربة معينة فنصدر أحكاما خاطئة، بل نحافظ على القراءة الصحيحة لسنن الله في الكون.
هنا بقية مقالات مجلة بلاغ العدد ٢٧ المحرم ١٤٤٣ هـ