بين الإيمان والحب| الواحة الأدبية | مجلة بلاغ العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
الأستاذ: غياث الحلبي
عاد بهاء إلى بيته والفرحة تتراقص على وجهه فقد حصل على مجموع عال في نيله لشهادة البكالوريا، وسيتمكن من دخول فرع الهندسة الكهربائية ويحقق حلمه الذي كان يحلم به منذ كان صغيرا.
ومضت الأيام وصار بهاء طالبا في كلية الهندسة الكهربائية، كان بهاء شابا أسمر طويلا واسع العينين عريض الجبهة، في أنفه دقة شديدة الأناقة، مرهف الإحساس، ولم يكن بهاء ملتزما دينيا فهو نادرا ما يصلي باستثناء صلاة الجمعة، وقد تربى في أسرة يسمونها متحررة يشيع فيها الاختلاط وسماع الأغاني وتدخين السجائر، ومع ذلك فقد كان مهذبا، وقد رباه أبوه التاجر الحلبي الثري على صدق اللهجة، وكان كثيرا ما يقول له: رأس مال التاجر صدقه؛ فإياك والكذب.
كانت كلية الهندسة الكهربائية كسائر الكليات في حلب، تكاد تخلو من مظاهر الأدب والحشمة، ويكثر فيها التبرج، وتعطى المحاضرات فيها في قاعات هي بالمراقص أشبه منها بدور العلم.
تعرف بهاء على عدة أصدقاء كانت من بينهم فتاة تدعى سارة من مدينة صافيتا، وهي من الطائفة النصيرية، ولم يكن بهاء يعرف من هم النصيرية، على أي حال فقد أعجب بالفتاة وشغفته حبا، ولم يكن حال سارة بأحسن منه، ومرت الأيام وازداد تعلق بهاء بسارة، وكان يشعر أن اليوم الذي لا يراها فيه يمر بطيئا كالسلحفاة تحمل على ظهرها جبلا.
ولما دنا وقت تخرجهما من الجامعة فاتح بهاء أمه بموضوع سارة وطلب منها أن تعرض الأمر على أبيه، ولما أخذت الأم تستفسر من ابنها عن تلك الفتاة علمت أنها من الطائفة النصيرية، فقالت له أمه: يا بني، لا أريدك أن تتزوج من هؤلاء القوم فهم ليسوا من أهل ديننا وملتنا.
ذهل بهاء وهو يسمع أمه تقول ذلك، وقال لها: ولكنها فتاة طيبة يا أمي وأنا أحبها.
وأرادت الأم أن تتخلص من شدة الموقف فقالت له: سأعرض الأمر على أبيك ليرى رأيه في ذلك.
كان أبو بهاء تاجرا محنكا ذكيا، ذا مهارة عالية في التجارة، ولا هم له سوى جمع الأموال، ثم إنفاقها ببذخ على أسرته، وعندما عاد في المساء أخبرته بالقصة، وحذرته من مغبة السماح لابنه بالزواج من فتاة نصيرية، ولكن أبا بهاء وجد أمامه كنزا ثمينا، وفرصة لا تعوض، فهذه الفتاة قد تفتح له آفاقا لتسهيل عملياته التجارية طالما أنها من الطائفة التي تحكم البلد وتتحكم فيه، فقال لزوجته: وما المشكلة أن يتزوج بها بهاء، فقالت: ألم تنتبه إلى ما قلت لك، إنها علوية علوية يا أبا بهاء، يعني كافرة.
فقال لها: اخفضي صوتك حتى لا يسمعك أحد فنصبح في خبر كان، وأتبع قائلا: حتى لو كانت كافرة فإنها ستسلم عندما تأتي وتعيش بيننا.
فقالت: ولكن يا أبا بهاء،
فقاطعها قائلا: دعيني من ولكن، طالما أن الولد قد أحبها واختارها فليكن له ذلك.
ووافقت أم بهاء مكرهة.
وفي الوقت ذاته كانت سارة قد فاتحت والدتها بالموضوع ذاته، وأخبرتها أن صديقها بهاء قد أحبها وينوي خطبتها، وأنه ابن تاجر ثري من حلب، ولم تعارض الأم ذلك، وأبلغت أبا سارة بالأمر، ففرح بذلك، فهو يريد أن تذوب الفوارق بين السنة والنصيرية ويتغلغل النصيرية في المجتمع ليخرجوا من عزلتهم السابقة.
وجرت حفلة الخطوبة وكانت حفلة مليئة بالمنكرات بغياب الشعور الإيماني ورقابة الدين، وتم تحديد العرس بعد التخرج مباشرة، أي بعد ثمانية أشهر من الآن.
وشعر بهاء أن الكون بأسره لم يعد يسعه من الفرحة والسرور، ولم يمض سوى شهران على ذلك حتى بدأت المظاهرات تعم في أرجاء حلب منادية بإسقاط النظام، وقد اتخذ بهاء موقفا حياديا في بداية الأمر، ولكن عندما رأى قطعان الوحوش التي يطلق عليها الشبيحة تقمع الناس بكل وحشية، ورأى عددا من أصدقائه في الجامعة اعتقلوا ثم خرج بعضهم وقد صار جسده مشتملا على ألوان الطيف السبعة “قوس قزح” وكانت قاصمة الظهر بالنسبة له عندما رأى أحد أصدقائه وقد افترست فؤاده ثلاث طلقات خرجت من فوهة بندقية أحد الشبيحة.
عندها أخذ بهاء يشارك في المظاهرات، ويهتف بإسقاط النظام، وكانت خطيبته سارة كثيرا ما ترجوه أن يكف عن ذلك، وتردد على مسامعه ما تسمعه من أهلها من أن هناك مؤامرة كونية على نظام الممانعة والمقاومة، فكان يسرد عليها ما رآه بأم عينيه من مشاهد الوحشية والإجرام التي يمارسها نظام الممانعة والمقاومة على الشعب الأعزل، وذكر لها كيف قتل صديقهما قبل أيام. ولم تجد سارة أمامها إلا الصمت حلا.
وفي إحدى المرات خرج بهاء يهتف في مظاهرة عارمة، فأحاطت به مجموعة من الشبيحة، وانهالوا عليه ضربا، واقتادوه إلى إحدى سيارات الشرطة، ومن هناك نقل إلى أحد الأفرع الأمنية، وما إن وطئت قدماه ذلك الفرع حتى استقبله زبانيته بمختلف أنواع اللكمات والصفعات والركلات واللكزات واللهزات، فسقط أرضا وهو يرى أن هؤلاء وحوشا كالبشر أو بشرا كالوحوش أو آلات لا قلوب لها أو أي شيء، المهم أنهم براء من الإنسانية ولوازمها براءة الذئب من دم ابن يعقوب عليهما السلام.
مكث بهاء في السجن خمسة عشر يوما ذاق خلالها صنوف الألم وأنواع التعذيب، وسمع من الشتائم البذيئة ما لو جمع لكان قدرا صالحا ليكون ذيلا لمعجم المناهي اللفظية أو شرحا مطولا لقول أهل العلم: والكفر قد يكون بالقول، وأمثلة غزيرة لا تحصى للألفاظ التي يقع بها القذف مما يذكر عادة في كتاب الحدود.
وحدث أمر مهم في السجن كان سببا في تغير مجرى حياة بهاء، وذلك أنه التقى برجل في السجن يشع النور من وجهه ويغمر الإيمان قلبه، ولا يعرف القنوط طريقا إلى نفسه، وبعد أن تعرف كل واحد منهما على الآخر أقبل الرجل على بهاء فقال له: صراعنا مع هؤلاء النصيرية يا بهاء أعمق من أن يكون من أجل إسقاط هذا النظام فقط، أو نيل بعض الحريات، أو إلغاء قانون الطوارئ، أو ما شابه ذلك. إنها معركة إيمان وكفر.
دهش بهاء وهو يسمع ذلك، وقال للرجل: من هم هؤلاء النصيرية؟
فأجاب: هم من يسميهم الناس خطأ العلوية، وهذا اسم أطلقه الفرنسيون عليهم بقصد خداع أهل السنة في سوريا.
ثم تابع قائلا: “هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين، ومن أعظم مصائبهم انتصار المسلمين، ومن أعظم أعيادهم قتل المسلمين والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم” [اقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بتصرف يسير واختصار]، ولا يمكن أن يصمد بوجههم إلا من عمر قلبه بالإيمان وباع نفسه لله، فكن من هذا الصنف أو لا تتعب نفسك فالطريق طويل وشاق ولا زلنا في بدايته.
وختم حديثه بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
لامست كلمات هذا الرجل شغاف قلب بهاء وأحس أن مطرا غزيرا قد سقى قلبه القاحل فنبتت فيه المعاني الإيمانية، فعاهد ربه على التوبة وسلوك هذا الطريق الشاق الطويل.
وخرج بهاء من السجن بعد أن دفع أبوه التاجر ثلاثة ملايين ليرة رشوة لإطلاق سراح ابنه.
بدأ تغير بهاء واضحا على أسرته، فهو يحافظ على صلاته في المسجد، ويجتنب السهرات الأسرية المختلطة، وعزف عن سماع الأغاني.
ثم التقى بخطيبته سارة التي قدمت لتهنئه بالخروج بالسلامة. وقبل أن تخيره بينها وبين الكف عن الخروج بالمظاهرات صارحها بأنه لا يمكن أن يتزوج بها ما لم تسلم، وصعقت سارة، وهي تسمع ذلك، ولكنها ظلت صامتة فيما تابع بهاء حديثه عن عزمه على سلوك طريق الثورة ومناهضة هؤلاء الظلمة المجرمين، ثم ذكر لها شيئا مما لقي من العذاب في سجنه، ولم ينس أن يخبرها بوجوب ارتداء الحجاب الشرعي، ثم ختم حديثه قائلا: ما رأيك؟
إلا أن سارة لم تنبس ببنت شفة، بل نزعت خاتم الخطوبة من يدها ثم رمته في وجهه وغادرت المكان دون حتى كلمة الوداع.
شعر بهاء أن قلبه قد انصدع فقد كان مفعما بحب سارة، ولكنه كان قد تعلم أن هذا الطريق يستدعي التضحية بأعظم المحبوبات واللذائذ، ومما أعانه على ذلك مطالعته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
حاولت أسرة بهاء ثنيه عن الطريق الذي بدأ بسلوكه، وكثيرا ما جلس أبوه أمامه يقول له: يا بني، لا نريد مشاكل، نحن نعيش بأمان ورغد من العيش، وهؤلاء المتظاهرون يريدون تخريب البلد، فكف عما أنت فيه ولا تحملني ما لا طاقة لي به.
أخبرني ماذا ينقصك؟ أنت تعيش في أهنأ عيشة، تأكل وتشرب ما تحب، وتسكن في أرقى المناطق، وتلبس أجمل الثياب، ماذا تريد غير ذلك؟
وهذه الفتاة التي أحببتها قد تركتك، فراجع نفسك قبل فوات الأوان.
فقال بهاء: هل هذا ما نحيا لأجله يا أبتاه؟ أما ترى الظلم الجاثم على صدورنا؟ ألم أحك لك عما لقيته ويلقاه السجناء من العذاب والإهانة والقتل في الأفرع الأمنية؟
ثم من هم الذين يريدون تخريب البلد من المتظاهرين، كلهم أبناء أسر معروفة وهم شباب في عمر الورد، وكثير منهم من طلبة الجامعة بمختلف أفرعها.
فغضب أبوه لدى سماعه هذا الكلام وقطع عنه المصروف وطرده من المنزل محاولا بذلك ثنيه عن طريقه، ولكن بهاء لم يعبأ بذلك، واتخذ من مصعب بن عمير أسوة له.
وبعد أن تحولت المظاهرات إلى ثورة مسلحة انضم إليها بهاء، ولكنه لم ينس حبه لسارة، وقد اقتنى كتاب السحاب الأحمر وحديث القمر للرافعي، وكان يقرأ فيهما كل ليلة والدموع تنهمر من عينيه.
وفي أحد الأيام طلب أمير الفصيل من المجاهدين الاستعداد لمعركة ضخمة من أجل تحرير بعض المناطق من قبضة النظام النصيري، فتأهب المجاهدون لذلك واستعد بهاء الاستعداد الكامل، وشعر أنه سيلقى ربه في تلك المعركة، فكتب رسالة بخط يده ودفعها إلى أحد أصدقائه الثقات وأمره ألا يفتحها إلا إذا استشهد، فعندئذ يقوم بتصويرها بجواله ثم إرسالها إلى رقم أعطاه إياه.
لم تكن سارة قد نسيت حب بهاء بل كان طيفه يزورها كل ليلة، وكانت لا تنام حتى تبل وسادتها بدموعه، ولكن كبرياءها منعها من إعادة الاتصال ببهاء.
وأخذت تتابع الإعلام بشدة لعلها تظفر بخبر عنه، وقد أورثها ذلك يقينا بكذب النظام وبطلان دعاويه ووهاء أكاذيبه، ورأت بعينها قصفه بأنواع الصواريخ والقنابل والبراميل للآمنين والأبرياء، ورأت أشلاء الأطفال المتناثرة وأجسادهم الغضة الطرية وقد اختنقت بعد أن قصفت بالكلور والسارين، فأحست ببغض شديد لهذا النظام، وودت لو أن نارا من السماء نزلت عليه فأحرقته أو لو أن الأرض انشقت فابتلعته وخلصت الناس من جرائمه وشروره.
وفي إحدى الليالي المقمرة وبينما سارة تتجول في حديقة منزلها متذكرة الأيام الماضية مع بهاء إذ سمعت صوت تنبيه من جوالها ينبؤها أن رسالة قد وصلت إليها، أمسكت الجوال فرأت رقما غريبا، أرسل إليها: السلام عليكم، الآنسة سارة؟ هذه رسالة كتبها بهاء، وقد طلب مني أن أرسلها لك وقد استشهد البارحة بطلقة قناص أصابت قلبه.
ثم رأت صورة ورقة مكتوب فيها: سارة، أعلم أن هذه الرسالة لن تصل إليك إلا بعد أن تكون روحي قد زفت إلى السماء، ولذلك لن أكثر عليك الكلام حتى لا أنكأ فيك جروحا قد التأمت أو شارفت على الالتئام ولن أذكرك بالأيام السالفة، إنما أريد أن أقول لك شيئا واحدا فحسب: قد فاتنا اللقاء والوصال في الدنيا، فاحرصي على أن تجمعنا الجنة في الآخرة، فإني هناك. “بهاء”.
أنهت سارة الرسالة ودموع غزار تنهار من عينيها كأنها المطر في كانون الثاني، ثم أرسلت إلى ذات الرقم تطلب منه عنوانهم في حلب، وقبيل شروق الشمس كانت سارة قد حزمت أمرها وأتمت استعدادها ويممت وجهها شطر حلب، معلنة إسلامها ساعية لتحقيق وصية بهاء في اللقاء بالآخرة بعد أن فات اللقاء في الدنيا.
انتهت.
لمتابعة مقالات العدد السابع عشر ربيع الأول 1442هجرية
– هكذا نصروه – التحرير
الركن الدعوي
-الشهوة أصل الشبهة – الشيخ أبو اليقظان محمد ناجي
– عقائد النصيرية 10 – الشيح محمد سمير
– أحكام الجهاد مع الإمام الفاجر – الشيخ أبو شعيب طلحة المسير
– ويمشي في الأسواق – الشيخ همام أبو عبد الله
– حب النبي صلى الله عليه وسلم – الشيخ أبو حمزة الكردي
صدى إدلب
– إدلب في شهر صفر 1442هـ – أبو جلال الحموي
– لقطة شاشة – أبو محمد الجنوبي
– مواقيت الصلاة في إدلب لشهر ربيع الأول 1442هـ – رابطة العالم الإسلامي
كتابات فكرية
– آفة الاستعجال – د. أبو عبد الله الشامي
– المعاركُ الجَّانبيةُ ومرارةُ الخُذلان – الأستاذ أبو يحيى الشامي
– أفغانستان جراح وآمال – إحسان الله (أنس الأفغاني)
– الحق أقوى من إعلامهم – الأستاذ خالد شاكر
ركن المرأة
– طريق الهداية الأستاذة – نسمة القطان
الواحة الأدبية
– بين الإيمان والحب – الأستاذ غياث الحلبي
لتحميل نسخة من المجلة BDF اضغط هنا
لمتابعة قناة مؤسسة بلاغ الإعلامية على التليجرام تابع