بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين مجلة بلاغ العدد ٧٢ – ذو القعدة ١٤٤٦ هـ

الآنسة: خنساء عثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

ساد اليوم في أكثر الأوساط اعتقادًا أننا إن تكلمنا بتحكيم الإسلام هجم علينا الأعداء من كل صوبٍ قصفًا وتشريدًا وتخويفًا، ونحن ضعافٌ لا قوة لنا.

وهذا كلام عارٍ عن الصحة، فإقامة دعائم الدين والتمسك بثوابته هو القوة بعينها، وهو الذي يحفظ كل حقٍ سواءٌ كان مالاً أو أرضاً أو حريةً أو كرامةً،

لذلك يجب أن تجند كل الإمكانيات لحماية الدين ومبادئه، وأن يكون الوطن والأرض والمال والحياة وسائل لحفظ العقيدة وترسيخها، حتى إذا اقتضى الأمر بذل ذلك كله في سبيلها وجب بذله.

ذلك أن الدين إذا فقد، لم يغن من ورائه الوطن والمال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك إن غاب الدين أما إذا تغلب الدين ورسخت العقيدة في القلوب، فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مالٍ وأرضٍ ووطنٍ فإنه يعود، بل يعود أقوى وأفضل لأنه بحراسةٍ قويةٍ من الكرامة والقوة والبصيرة.

وقد جرت سنة الله في الكون على مر التاريخ أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة- للمكاسب-المادية، فإذا كانت الأمة غنيةً في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن قوتها المادية وسلطانها سيكون أكثر تماسكاً وأشدّ بقاء وأمنع جانباً.

أمّا إذا فقدت الأخلاق والعقيدة والعدل في الحكم فإن سلطانها المادي سيؤول إلى السقوط ومكتسباتها ستكون أسرع إلى الزوال، وما أصدق قول الشاعر:

إنما الأمم الأخلاق مابقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

وقد نرى أمةً تائهةً في عقيدتها عن جادة الصواب منحطّةً في مستواها الخُلقي والاجتماعي، ومع ذلك فهي ذات قوةٍ وسلطانٍ ولكنها في الحقيقة والواقع تسرع إلى الهاوية والسقوط لكننا لا نرى ولا نحس بحركة هذا المرور وسرعته لأن أعمارنا قصيرةٌ أمام عمر التاريخ، ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهي.

أما الأمة التي ضحّت وتعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروةٍ ووطنٍ ومالٍ في سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفي سبيل بناء النظام الاجتماعي السليم، فستجدها بعد فترة

قد استعادت مالها المغصوب ووطنها المسلوب وعادت إليها قوتها معززةً مضاعفةً.

ولن نجد الصورة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة إلّا في عقيدة الإسلام الذي هو دين الله لعباده في الأرض ولن نجد من نظامٍ اجتماعيٍ عادلٍ سليمٍ إلا في نظام الإسلام وهديه؛ ولذا فقد كان من أسس الدعوة إلى الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيله، فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة.

بالأمس كانت فتنة أهل الشام بالتهجير والقصف والإبادة (الضراء) واليوم فتنتهم في (السراء) وهي أشد فتنةً لا يقوى على مقاومتها إلا صاحب الرؤية السليمة والنظر البعيد الذي قرأ السيرة ودرس هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت بحسب الظاهر تضييعًا للوطن ولكنه في واقع الأمر حفاظٌ عليه وضمانة له، وربّ مظهرٍ من مظاهر الحفاظ على الشيء يبدو في صورة التخلي عنه فقد عاد صلى الله عليه وسلم بعد بضع سنوات من هجرته هذه -بفضل الدين الذي أقام صرحه ودولته- إلى وطنه الذي أخرج منه، عزيز الجانب، منيع القوة، دون أن يستطيع أحدٌ من أولئك الذين تربصوا به ولاحقوه بقصد القتل أن يدنوا إليه بسوء.

وتحقق وعد الله له في آية سورة القصص التي نزلت عليه وهو مُخرجٌ من بلده، مطاردٌ من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريباً من مكّة، قريباً من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعزّ عليه فراقه، لولا أن دعوته أعزّ عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته ومقر أهله، {إِنَّ الَّذي فَرَضَ عليكَ القرآن لرادّكَ إِلى مَعادٍ} [القصص:85]، فما هو بتاركك للمشركين، وإنك اليوم مخرجٌ منه مطاردٌ، ولكنك غداً منصور، إليه عائد.

وإنّ وعد الله لقائمٌ لكل السالكين في الطريق، وإنّه ما من أحدٍ يؤذى في سبيل الله، فيصبر ويستيقن إلّا نصره الله في وجه الطغيان في النهاية، وتولى عنه المعركة حين بذل ما في وسعه وأدّى واجبه.

فهل هناك أوضح من هذا المثال وهذه الآية؟

ناهيك عن أن سنّة الله في عباده شدّة الابتلاء ليرى الله من ينتصر الإيمان وطلب الآخرة في قلبه، ومن ينتصر حب الدنيا وكراهية الموت في قلبه،

قال تعالى: {أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ﴾ [العنكبوت:٢]، يقول صاحب الظلال: “إنّ الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف وأمانة ذات أعباء وجهاد يحتاج إلى صبر وجهد يحتاج الى احتمال فلا يكفي أن يقول الناس آمنّا وهم لا يتركون على هذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهكذا تصنع الفتنة بالقلوب سنّة جارية في ميزان الله تعالى”.

لكن من الصعب في هذه الفتن وارتفاع ضجيج الباطل وتشويشه على صوت الحق أن توضحي وبهدوء الطريق المستقيم الموصل إلى بر الأمان للمسلمين بالتمكين والاستخلاف في الأرض وذلك بسبب الكم الهائل من الجهل الذي تعرض له المسلمون على مدار عشرات السنين إن لم نقل مئات السنين لأسباب كثيرة زرعها فينا أعداؤنا ليتمكنوا من رقابنا، أبرزها في وقتنا الحاضر أنّ الكوادر والقدرات لم يحصّلوا علمهم وثقافتهم إلّا من المدارس بقوالبها المبنية على أسس بعيدة كل البعد عن النهج السوي الذي يرفع شأن الأمة بمتعلميها!

لذا فالضياع عنواننا أمام النوازل إلّا من رحم الله.

فلنحذر من أن تصدّنا عن تحكيم شرع الله ولنحذر من اتخاذها حجة لأنها واهيةٌ كذّبها الواقع.

لقد رأينا بأمّ أعيننا كيف حورب النهج الصحيح في غزّة خوفاً من تكالب الأمم عليهم لكن في النهاية لم يقف ذلك مانعاً أمام اليهود من إبادتهم ولا حول ولا قوة إلّا بالله، أسأل الله الفرج.

ورأينا كذلك تجربة طالبان.

فلنختر لأنفسنا النتيجة في النهاية من البداية التي اخترناها نحن من التجربتين.

نسأل الله الثبات والتوفيق إنّه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى