الفرار إلى الله من النقاش العقيم – كتابات فكرية – مجلة بلاغ العدد ٢٩ ربيع الأول ١٤٤٣ هـ
مجلة بلاغ العدد التاسع والعشرون ربيع الأول ١٤٤٣ هجرية – تشرين الأول ٢٠٢١ ميلادي
الأستاذ: أبو يحيى الشامي
بينما كانت مدافع السلطان العثماني محمدٍ الفاتحَ تدكُّ أسوار القسطنطينية، كان مجلس شيوخ المدينة يناقش مسائل فقهيةً ولاهوتية، فلقد تعودت نخبة الإمبراطورية البيزنطية على النقاش الطويل الذي لا ثمار له، ولم ينجح الأباطرة بدءاً من قسطنطين الثاني في منعهم من جدالهم العقيم، رغم تشديد العقوبات، وها هو قسطنطين الحادي عشر يرجوهم التوقف للدفاع عن المدينة، وهم يناقشون جنسَ الملائكةِ أهُمْ ذكورٌ أم إناث!، وحجمَ إبليسَ أهُوَ كبيرٌ لا يتسعُ له مكانٌ أم صغيرٌ يدخل في ثقب إبرة!، ودخل المسلمون المدينةَ وقُتل قسطنطين وتفرق البيزنطيون في البلاد لينتهي ذاك النقاش بينهم، ويوصف كل نقاشٍ يشبهه بصفته “نقاشٌ بيزنطيٌ” عقيم.
كل نقاشٍ خاصٍّ أو عامٍّ لا تولد منه فائدة عِلميةٍ أو عَمليةٍ ينتفع بها أطرافه والمجتمعُ فهو نقاشٌ عقيم، يطول ويطول ولا يأتي بثمرة، وما ذلك إلا لسببين رئيسيين:
– الأول عدم وجود ضوابطَ لهذا النقاش يُحكم بها على أهليَّةِ طرفيه والأفكار التي يعرضونها والحُجج التي يسُوقونها.
– والثاني عدم وجود جهةٍ تحكم بين الطرفين أو ترجِّح بينهما.
وهكذا يستمر النقاش على شكل دوامةٍ متجددةٍ تشتد وتخبو وتأكل الوقت والعقول.
لن أتطرق هنا لذكر الحق والباطل أو الصالح والفاسد، لأذكِّر بالواجبات الشرعية تجاهها وهي معروفة، سأركز على النقاش العقيم الذي في الغالب يكون ترفاً فكرياً أو قهراً فكرياً أو تنكباً للحق والصلاح من قبل جهةٍ لا تؤمن لك ولو أتيتها بكل آية، وتجد لذلك المبرِّرات، إن كان في شخصِ الذي أتى بالحق ودعا إلى الإصلاح، أو في الظروف المحيطة به، أو في بعض الجزئيات التي تعزلها هذه الجهة لتمارس دورها في الدحض والانكار.
نزل عدد من الآيات التي تصف حال المجادلين، وإن كان نزل معظمها في الكفار إلا أنها تنطبق على من يجادل بالباطل ولو كان منتسباً إلى الإسلام، فلربما جادل المسلم في الحق وانتصر للباطل إما جهلاً وإما كبراً بعدما تبيَّن الحق له، وهذان هما الدافعان الأكثر حضوراً في نفس المجادل العنيد، الذي يدخل النقاش ليفسده إما بالشِّدَّةِ واتهام الطرف الآخر أو بالتمييع والاستهزاء.
قال الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف : 56].
وقال جلَّ شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج : 8].
وقال تقدَّست أسماؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر : 56].
الجهل والكبر وعدم امتلاك الدليل (الحُجة أو السُّلطان)، يجعل رافض الحق والصلاح يطبق على النقاش سياسة المعركة، كرٌّ وفرٌّ واتِّقاءٌ بأي شيءٍ، مع رمي الخصم -أو قد يتخذه عدواً- بكل ما تيسر، وإعمال تحركات الإلهاء والكمائن!، كل ذلك لكي لا يصل النقاش إلى نتيجة لا ترضي هذا المجادل الخَصِم، إن كان يجادل عن نفسه أو عن غيره.
وقد نهى الله عز وجل عن النقاش الذي يتحول إلى جدال ومراء لا نفع منه، قال تعالى: {..فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا..} [الكهف : 22]، “أي: مبنياً على العلم واليقين، ويكون أيضاً فيه فائدة، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها، إما أن يكون الخصم معانداً، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك، فإن في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة، تضييعاً للزمان، وتأثيراً في مودة القلوب بغير فائدة” (تفسير السعدي).
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يترك المِراءَ بجائزةٍ عظيمةٍ، قال: “أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبْضِ الجنة لمن ترك المِراءَ وإن كان محقاً“. رواه أبو داوود وحسنه الألباني.
ولَئن كان المؤمن الذي يدعو إلى الحق ويسعى في الإصلاح يؤمِّل الخير من هداية الخلق، فإن هذه المهمةَ ليست صعبةً دائماً، بل إنها في بعض الحالات مستحيلةٌ، فمع رفض الحق وكل دليلٍ يؤيِّده، يرفض أهل الباطل الجاهلين المتكبرين المنتفعين من دوام باطلهم أن يعترفوا بالحق، ويرفضون أن يقتنعوا بأدلته أو يثبِّتوا النقاط الدالة عليه.
ولئن كان هذا حالُ المجادلين بالباطل في دوامةِ النقاش لدحض الحق أو الفرار منه أو من المباهلة عليه، كما فعل نصارى نجران عندما جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدين الحق وأبَوا المباهلة، فإن أهل الحق أولى بالفرار إلى الله من النقاش العقيم مع الجاهلين، فالهداية من الله، والغلبة للحق وأهله ولو بعد حين.
قال الله تعالى يصف عباده المؤمنين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص : 55 – 56].
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه… اللهم آمين.